في شهر رمضان الخير سيد الشهور والعبادات وركن الصيام والذي تتضاعف فيه الحسنات والأجور، خصّ الله عز وجل هذا الشهر بكثير من الفضائل والخصائص فهو شهر نزول القرآن الكريم، وهو شهر التوبة النصوحة والمغفرة وتكفير الذنوب والسيئات وفيه الرحمة والمغفرة والعتق من النار، وفيه تفتح أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران وتصفّد الشياطين، وفيه ليلة خير من ألف شهر، وهو شهر الجود والإحسان وهو شهر الدعاء المستجاب. فكان أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار. وأدعو الله مخلصاً أن يكون الجميع من عتقاء شهر رمضان الفضيل وأن يقبل صيامكم وصلاتكم وقيامكم ودعاءكم، آمين.
والمطلوب في رمضان تعظيم الروحانيات وطرق وسائل التقرب إلى الله عزّ وجل بالعبادات من صلاة وصوم والطاعات المفروضة والنوافل من قراءة للقرآن والدعاء وقيام الليل وغيرها، وصلة الأرحام ومساعدة الفقراء والأيتام والمساكين وأبناء السبيل وغيرهم، والصدقات بأنواعها والإحسان للآخرين كتوزيع الوجبات للإفطار أو الماء على الإشارات الضوئية أو التمر على الطرقات والمعاملة الحسنة والكلمة الطيبة غيرها، والمحافظة على صلاة الجماعة بالمساجد وخصوصاً الفجر والعشاء والتراويح، والمحافظة على الهدوء والسكينة والتسامح والتصافح بين الناس، وزيادة جمعات الأهل والأرحام، وغيرها من أعمال الخير.
ومطلوب أيضاً ترك بعض العادات التي لا تتوافق مع رمضان البتّة، فالصوم عن الطعام دون الصيام عن الكلام من حيث إستغابة الناس والهمز واللمز وغيرها يوقعنا في الظلال، والنزقيّة والعصبيّة وعدم الصبر في تصرفاتنا اليومية لا تنمّ عن أخلاقيات الصائمين، والتهافت على شراء الأطعمة والغذاء بكميات كبيرة وتكديسها لا تتواءم وأخلاقيات رمضان، والأزمات الأخلاقية في حركة المرور وخصوصاً قبل وقت الإفطار مظهر سلبي ويفسد فرحة الصائمين، وحضور البعض للمسجد أو الصلاة فقط في رمضان والعودة عن ذلك بعد إنتهاء الشهر الفضيل مؤشر غير ممدوح، حيث يُعدّ ذلك تمثيلاً على رب العالمين، وصخب الليالي بضياع الوقت في المقاهي والسهرات والأراغيل وعدم غض البصر وغيرها مظاهر غير محمودة وتُعدّ سلبية، نحن بصراحة نحتاج لتعظيم سلوكياتنا البيضاء في رمضان لنخلص بعباداتنا وطاعاتنا، ونحتاج أيضاً لكبح جماح التصرفات والسلوكيات السوداء التي بحاجة لتصويب اليوم وقبل الغد.
وبالرغم من كل ما سلف من الجوائز القيمة والسلوكيات الإيجابية والروحانيات أعجب من كثير من التصرفات السلبية للبعض والتي تمثّل النصف الفارغ من الكأس وتُشعرنا وكأننا خارج حدود هذا الشهر الفضيل، مما يعكس صورة قاتمة أو مشوّهة جراء تصرفات خاطئة من قبل البعض. وبالمقابل هنالك الكثير من الصائمين يعكسون صوراً رائعة وإيجابية من خلال تصرفاتهم تعكس مشروعية رمضان الحقيقية.
فأزمات السير المفتعلة والتصرفات المرورية الرعناء للبعض وخصوصاً قبل ساعة الإفطار لا تنمّ عن أي سلوك حضاري أو ديني، بل تعطي صورة سلبية للنزق وعدم الصبر والذي يظنّه الآخرين أنه جراء الصيام، وبالطبع هذا ليس صحيحاً فهو سلوك شخصي ناتج عن سوء تربية أو سوء فهم لمعنى الصيام وفضائله، بل على العكس فالصيام فيه تهذيب للنفس البشرية ويعطي الإنسان قدرة رهيبة على الصبر والتحمّل والشعور مع الآخر. والدعوة هنا موجّهة لمديرية الأمن العام وتحديداً مديرية السير فيها لضبط سلوكيات الخارجين عن قانون السير ليكونوا عبرة لغيرهم، لأن هذه الفئة من الناس تتعمّد الفوضى والإرباك والطيش واللامسؤولية، وبالطبع الفوضى بالسير لا يمكن ضبطها إلّا بأخلاقنا لا بإشارات المرور ولا بدورية الشرطة ولا بالكاميرات ولا بتوسيع الشوارع ولا بالمخالفات المرورية ولا بتغليظ العقوبات!
كما يشكو بعض المراجعين لمؤسسات القطاع العام وأحياناً حتى القطاع الخاص من تقاعس البعض عن القيام بواجباتهم خدمة للمراجعين بحجّة الصيام أو بحجة تأدية العبادات الأخرى، وبالطبع هذا ليس من الدين بشيء بل خروج عن المألوف ويعكس أيضاً إنهزاماً وتلكؤاً حقيقياً داخل هذا الموظف أو تلك الموظفة، لأن الصيام لا يؤثّر البتّة على العطاء والإنتاجية والعمل وإنّما يعزّز فيها النماء والبركة، وبالمقابل نجد الكثير من الموظفين كنموذج مثالي يعملون بجدّ ونشاط منقطع النظير ولا يضيّعون ولو دقيقة من وقتهم، فبوركت جهود العاملين المخلصين.
وفي رمضان يفترض أن تتزايد كلّ من صلة الأرحام والتواصل مع الفقراء والمساكين والأيتام والمحرومين والفئات الأقل حظاً، لكننا بالمقابل نلحظ إستغلالاً من قبل بعض ذوي النفوس المريضة للسؤا ل عن الحاجة المادية وطلب المساعدة باطّراد رغم أنهم ليسوا محتاجين لكنهم باتوا يمارسون عادة السؤال طلباً للمال وعلّموا أبناءهم لينشأوا على ذلك، والقناعة دوماً تقول بأن المحتاج والعفيف لا يمكن أن يسأل، فيختلط الحابل بالنابل ولا يمكن للناس الذين يمتلكون روحية العطاء أن يميّزوا الغثّ من السمين.
وكم كنت أتمنّى أن تضطلع مؤسسات جمع المال وخصوصاً البنوك وشركات المقاولات والإستثمار بمسؤولياتها الإجتماعية تجاه الفقراء والمساكين والفئات المحرومة ليكون عندهم روحية العطاء لا الأخذ، وما أحوجنا لذلك في رمضان! ورغم أن هذه الروحية موجودة بكثرة عند الأفراد بيد أنها غائبة عن الكثير من المؤسسات والشركات. وأحلم بإنشاء صندوق خاص لهذه الشركات يخصص للفئات المحرومة في رمضان.
ورغم أنني لا أشكّ قيد أنملة في الجهود المضنية والمسؤولة والتي تقوم بها مؤسسة الغذاء والدواء ووزارة الصحّة لضبط مخالفات المطاعم والملاحم والمخابز وغيرها وفق القانون وأثني من القلب على جهودهم المستمرة والمتميزة وخصوصاً في ضبط ومتابعة قضية الدجاج الفاسد الأخيرة، إلّا أنني بنفس الوقت أعجب من أصحاب هذه المصالح التي تخصّ غذاء وقوت ودواء المواطن كيف تسوّل لهم أنفسم بالربح الفاحش والغنى السريع على حساب «تسميم» و «هلاك» المواطن! ألا يخاف هؤلاء ربّ العزّة ولو في هذا الشهر الفضيل؟ فإن لم يكن الرادع والوازع داخلياً من خلال إيمانهم العميق بالحلال بالطبع لا يمكن أن يتم ضبط جودة ونوعية الغذاء الذي سيتناوله الناس وسيبقون يجمعون أموالهم حراماً ويغذّون أولادهم بالحرام.
كما أن جَشع معظم التجّار في رمضان لدرجة مضاعفة أسعار بعض السلع وتباينها من متجر لآخر وبفروقات مرتفعة يؤشّر إلى انتهاك حرمة الشهر الفضيل من قبلهم، والسؤال أين وزارة الصناعة والتجارة من تطبيق قانونهم على مثل هؤلاء؟ وأين الإستجابة لطلبات جمعية حماية المستهلك؟
حتى أزمات المياة يتم افتعالها واستغلالها من قبل البعض في رمضان، وأنا هنا أشفق على وزارة المياه والري والتي تعاني موازنتها المالية من شحّ كبير، ولا أعلم لماذا طلبات الناس من المياه في تزايد مستمر في هذا الشهر الفضيل؟ كما أن أسعار مياه الصهاريج في القطاع الخاص تتضاعف كسلوكية إستغلالية!
وسأذكر أيضاً سلوكيات المواطنين الخاطئة في تخزين وتجميع وتراكم المواد والأطعمة قبل بدء رمضان، فتهافت البعض على شراء حاجات الطعام والشراب في رمضان وبكميات مذهلة يُعطي رسالة خاطئة وكأن رمضان ليس شهر عبادة بل للطعام والشراب!
وإحدى العادات السلبية المنتشرة عند بعض الناس -وخصوصاً الشباب- في رمضان النوم بالنهار والإستيقاظ قبل الإفطار بقليل، ويليها الإفطار ومن ثم السهر للفجر وقضاء الليل في المقاهي للعب بورق الشدّة أو غيرها. وبالطبع ينقلب الليل نهاراً والعكس صحيح. لا أريد أن أتصرّف هنا مُفتياً صحة الصيام من عدمه، لكنني أقول بأن هذه العادة تقلب موازين الآية الكريمة: «وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشا»، لأن فيهما نعمة من الشؤون المتباينة، وفي هذه التصرفات خرق لحيثيات هذه النعم التي ربما نجهلها بعد. فواجب الأهل عدم التصرّف بذلك، وواجبهم أيضاً تنبيه الأبناء لعدم التصرّف بذلك.
فشهر رمضان للعبادة وليس للتسوق أو السهر أو للتباهي بمظاهر الطعام أو البذخ، وشهر رمضان شهر العبادات وليس شهر تغيير العادات، وشهر رمضان للطاعات وليس للطلعات، وشهر رمضان شهر للذكر وليس للمسلسلات، وشهر رمضان للرحمة وليس للحمة، وشهر رمضان للصبر وليس للهبر، وشهر رمضان للفرج وليس للفرجة، وشهر رمضان لله ويجزي به، فالصوم ليس إمتناع عن الأكل والشراب والمفطرات فحسب، ولكنه منظومة عبادات وقيم ودروس وصلة رحم وإحسان وتعبد وإحساس مع الفقراء والمساكين وغيرها.
والقائمة بالطبع تطول لسرد ومراجعة الكثير من الإضاءات والشذرات والسلوكيات الرمضانية الإيجابية والسلبية على السواء، لكنني سأكتفي بذلك ولأركّز على أن رمضان للعبادة لا للطعام أو الشراب، وأن الصور السلبية التي تم التعريج عليها لا تمت بصلة لروحانية رمضان، وواجب علينا جميعاً تغيير وتأطير سلوكياتنا الخاطئة لتتماشى وحرمة الشهر الفضيل ولتصبّ في ميزاني روحانيتنا ووطنيتنا، ولنعزّز روحانية وخصوصية رمضان للعبادة لا أن نجعل منه عادة كلاسيكية سنويّة، وكل عام وأنتم والوطن وقائد الوطن بألف خير.
الدستور