ذات ليلة هادئة؛ رأيت فيما يرى النائم وكأني نزلت في مكان، خَيل إليّ إنما هو العالم من أقصاه إلى أدناه. تنقلت بين طرقاته فرأيت أناسا ينطقون بلغات لا حصر لها، فلم أزل أتنقل بين حركة وسكون، حتى انتهى بي المطاف إلى ساحة كبيرة ،لم أر أهول منها منظرا، احتشد فيها جمع غفير. كانت السماء صافية حتى خَيل لي بأنني أرى العالم العلوي من خلال أديمها الأزرق. والبحر ممدودا بكل مهابة. وبرغم جبروته حين طوى أمما خلت إلا أنه بقي محتفظا بعظيم سلطانه وجلاله. اقتربت من سيدة ترتدي بردة خضراء اللون لا يستبين منها سوى وجهها، سألتها: ما هذا المكان ومن هؤلاء؟ أجابت إنه يوم الأمنيات! وما هو يوم الأمنيات هذا؟ سألتها. أجابت: هذا اليوم حيث يذكر كل امرئ أمانيه فيتحلل من وزرها ومن آلامه! لم أعر الأمر اهتماما، تركتها وشرعت بالمسير دون وجل حتى انحدرت الشمس الى مغربها ثم ما لبثت أن زالت فإذا الفضاء ظلمة وانقباض.
عدت وقد أغشاني الخوف أبحث عن تلك المرأة؛ سألتها: ما الذي جرى؟ هل انتهيتم؟ قالت: نعم وأجهشت في بكاء يشبه النحيب. ولم كل هذا النحيب؟ سالتها. لم تجب، عدلت خمار رأسها ومسحت ماء عينيها بردن ثوبها، واتجهت نحو المنصة التي يقف عليها المتمنون، وصاحت بي: حان دورك! تلعثمت؛ ورحت أحدث نفسي، لست جريئة أنا حتى أتحدث في جمع كهذا! ثم أي أمنيات تلك التي يريدون لي التحلل من آلامها؟ لا رغبة لي بالتحلل!
أشار لي رجل طاعن في السن بسبابته أن أقبلي، كان يبدو شديد المراس، قوي الشكيمة، وَذَا ملامح حادة، وجنبات وجهه مرتخية. دنوت من المنصة، بيد أنني لم أصعد، وقفت في زاوية انعكس عليها ضوء لم أعلم ماهيته! غمغمت بصوت مرتعش : لا رغبة لي بالتحلل من أي شيء سيدي! أرغب بالعودة إلى منزلي.
قال بصوت حان: وماذا تريدين بعد؟ قلت بسرعة كمن مسه سحر حلال دون أن يجترح إثما، أريد وفاء في الود، وكرما في الحق. أريد أن يبقى رأسي مرفوعا فلا أصعر من خدي، وقولي صريحا فلا أتملق ذلك ولا أخشى تلك. وأريد مرآة تترائى فيها قلوب المخلوقات، صغيرها وكبيرها، دقيقها وعظيمها. وأريد لسانا واحدا ووجها مفردا فلا أجر ندما ولا أعقب سدما. أريد عالما خاصا بي لا يرفضُ بعنف، لا يسخرُ بعنف، لا يعرّي بعنف ولا يكرهُ بعنف. عالمٌ لا شرّٓ ولا طغيان فيه. عالمٌ يتشابك فيه المحسوس بالخيال.
وأريد كعبة للحرية، فأناضل من أشاء، وأجادل من أشاء. فلا أشقياء ولا أوصياء. وأريد حبا، يسري في ريق روحي حتى أذا ما بلغت التراقي، زرعت له في قلبي صورة، وسقيته من هاطل دمعي. وأريد شِعراً من ماء الكلام وطينته... شعر فيه من روح الله!
قال الرجل الطاعن في السن: وبعد؟ قلت: أريد أمي!
رفع الرجل نظره إلى السماء، كمن يومئ لها بانتهاء اليوم، فلمعت لمعتين، وكأن إحداهما وليفة الأخرى. وتبع اللمعتين صوت بدا وكأن السماء تعزف مقطوعة ربانية تفيض بالبشر، فانسابت أنغامها لتلقي ظلا على المكان. ظل كالليل يخالطه الذهب. انتهت ألحانها بقبلات حملها نسيم الصباح لي، لأستيقظ وقد هيئ لي بان ملائكة الله أطلت على الأرض، فهوت جميع الأرواح الشريرة منكفئة على وجوهها. سكون عذب عم المكان كاد يسلب الحياة كل ما فيها إلا من صدى أنين الباكين وزفرات المتألمين وترانيم الادعية المتجهة صوب السماء وصور أحلام النائمين وطائر وحيد يغرد خلف النافذة.