توطئة ..
" التحوّلات في المجتمع الأردنيّ و من حوله أسقطت كثيراً من رموز و أفكار و مدارس لم تعد تَصْلح لمثل هذا الوقت, من التحوّلات التي لم يُحْسن عدد من المعلّقين قراءتها, هي التغيّر المثير على صفة الوزير, خصوصاً في دولة ليست الأحزاب فيها مؤسسات قويّة, حتى إنْ كان للأحزاب قوة في تشكيل الحكومات، فإنّها اليوم تفضّل أنْ تدفع بالمهنيين فيها لمنصب الوزارة؛ فالتنظير السياسيّ وحده ليس بإمكانه أنْ يضيف شيئاً، بل إنّه مع الوقت يصبح اسطوانة مشروخة و مملة ما لم يصاحبه نتائج, كذلك الأمر بالنسبة لمجلس النواب " .
قبل أن نخوض مع الخائضين في شأن التعديل , نسجل في البدء أن " التعديل " حتى اللحظة صنيعة الصحافة وتسريبات لم تزل في سياق التوقعات تمارسها شخوص اعتادت مثل هذه الهواية منذ زمن , بينهم جمهور من المستوزرين , وغيرهم من العاطلين عن العمل في ميدان السياسة , على أننا لا نقول أن التعديل غير قائم , لكننا نسجل أننا لم نسمع من وزراء عاملين ولا من الرئيس ما يؤكد أو ينفي مثل هذه " الأقاويل , هذه واحدة , أما الثانية , فان ما سبق وما أعنيه هنا الأقاويل والتحليلات والاجتهادات وغيرها , أحاط الحكومات المتعاقبة , ببيئة ضاغطة تستعجل التعديل , بأي ثمن , وفي الأثناء تستبعد وزراء تستعجل خروجهم ويأمل دخول آخرين , وقد ساهم غياب التقييم وغياب المناخات السياسية التي تتشكل على أساسها الحكومات في أن تكون الخصومة والهوى وكثير من المصالح إلا العامة روافع للبيئة الضاغطة نحو التعديل والتغيير .... فهل يحيّد الرئيس هذه البيئة إذ " يجدد دماء " حكومته بمثل الطريقة التي بدأ بها ؟ .
والآن أبدأ ..
في كل المسؤوليات التي تولاها تميز نادر الذهبي رئيس وزراء الأردن بالهدوء لكنه صاحب القرارات الحاسمة التي تتبع آلية حصيفة وصولا إلى صنع القرار , وعلى طريقة التكتيك , يضع الخارطة أمامه, ويرى فيها أدق التفاصيل , الأثر قبل الإجراء , فلا يبهره أو يخطف بصره الضوء فيها بقدر ما تهمه التفاصيل في الأماكن الخافتة ومن هنا امتدت عنايته بتفاصيل الحياة اليومية لمواطنيه مقتفيا بذلك أثر صاحب الفعل الملك عبد الله الثاني , ومن هنا أيضا اتسمت معظم قراراته بالحكمة من دون ضجيج , أو تبريرات مسبقة تفقد القرار حسمه والثقة بأنه الأفضل ما أعفاه من الوقوع في خطأ الاستدراك أو الدفاع اللاحق .
الذهبي يعشق العمل الجماعي , وروح الفريق دوما هاجسه وعنوان قراراته , ولا أظنه كان سعيدا بمقولات نالت من بعض وزرائه , وصفتهم بالضعف تارة , وتارة أخرى جردتهم من "شعبية " , يتصارع للفوز فيها نجوم السينما والعابرين إلى العمل العام عبر بوابة الانتخاب , فالوزير في بلدنا إنما هو " ترس " إن صح التعبير في ماكينة الحكومة , يسجل إنجازه لها تماما كما إخفاقه , على قاعدة العمل الجماعي والمسؤولية الجماعية التي ذكرنا والتي يؤمن الرئيس المتمسك بالدستور بأن وزرائه وطاقمه هم شركاء له في النجاحات فيما يترك الإخفاقات إن وجدت على كاهله بمسؤولية عالية تعكس ثقة لا تقبل القسمة وفي ذات الوقت تؤسس لمبدأ غاب هو الحساب في إطار الحكومة , يحمل المقبول فيها خطة , ويخرج "المتخرج " منها حاملا كشف علامات تؤشر على نجاحاته كما تؤشر على إخفاقاته , يعرف منه أين نجح وأين أخفق , يعرف فيه لماذا يخرج بذات القدر الذي عرف فيه لماذا دخل .
وفي ذلك أقول .. إذا كان معيباً على الوزراء أنْ يكونوا من قطاع الأعمال, فبماذا نفسّر التحوّل المثير لرجال السياسة و الأحزاب إلى البزنس؟ ومن قال أن عالم الأعمال بات يتعارض وعالم السياسة , ففيهما اليوم من التداخل والتشابك ما يجعلهما سمة الإدارة الجديدة للحكم .
لا أدافع عن وزراء البزنس كما يحلو للبعض وصفهم, فالخلط بين المال و السلطة فيه شبهة ما لم تكن هناك ضوابط، و العقبى على الأداء و على النتائج؛ فالوزراء "البزنس" في المسؤولية متاحون للرقابة، فهم تحت دائرة الضوء، و لا أدافع عن الجغرافيا في تشكيل الحكومات, لكنّني أحبّ أنْ يأتي اليوم الذي ننتهي فيه من المحاصصة على أساس الجغرافيا والجهة في كل المناصب. و لِما لا يكون مجلس الوزراء كاملاً من قرية أو مدينة أو حتى عائلة أو عشيرة واحدة ما دمنا متفقين على تكريس الاحتكام إلى معايير الكفاءة و الأداء؟ فكم جاءت الجغرافيا بعديمي الكفاءة وكم فعلت أحيانا العكس، لكنّها في كلّ الأحوال طريقة انتهت أسبابُها و مبرراتها منذ وقت طويل.
على قاعدة العمل الجماعي , سار الذهبي في البدء , فعقد خلوة في العقبة التي نجح فيها إدارة وحكما رشيدا , استدعى لها وزراء مرشحين للانضمام إلى حكومة أراد لها أن تبدأ بتميز , تضع أمامها خارطة طريق , يعرف السائرون في معالمها مهماتهم , فيها من التحديات بقدر ما فيها من استشراف للمستقبل , فبدأت ماكينة الحكومة خطوة , خطوة , تخلصت على الطريق من تفاعلات دخلت فيها سابقاتها ومن شوائب اعترت مسيرة غيرها ومن تنازع أدوار استنزف أو كاد ممن سبقها جهدا كان التركيز على العمل والإنجاز أولى به , ورغم صخب وتجاذب , فعلت فيه آليات المجتمع ما فعلت ظل الرئيس يمارس هدوئه المعتاد , وباتت الحكومة بلا منازع صاحبة الحل والعقد , ترتدي وحيدة مفردات العمل العام الذي تستلهمه من الملك , حكومة صفتها أنها للوطن شعارها الإنجاز وقد نأت بنفسها عن كثير من المصطلحات التي أراد بعضنا إلصاقها بها , منها ما نعرف ومنها ابتكارات لأصحابها , فتارة ليبرالية جديدة ومرة محافظة تقليدية , وأخيرا ليبرالية وطنية , لكن واقع الحال هو الوصف الذي يحلو لرئيسها وصفها فيه " حكومة أردنية , إصلاحية , الإنجاز غايتها والمواطن هدفها " وعلى وقع ما سبق , ها هي ذا تلتقط الأنفاس في لحظة مراجعة قد تفضي إلى تعديل يرمي إلى ضخ دماء جديدة ..
والدماء الجديدة التي تحتاجها الحكومة , كما أظن أن رئيسها يؤمن , لا تعني أن الدماء التي ما تزال تجري في عروقها " فاسدة " , أو أنها بردت أو أنها " تخثرت " كما يحلو للبعض التأويل والتفسير , فكل دماء الحكومة لها وللوطن , لكن التغيير سنة الحياة , وإذ هو كذلك ينبغي أن تكون له أسبابه , وموجباته , وعلى الخلايا البيضاء إن تقرر لها أن تخرج إلى استراحة , من حقها أن تمسك بكشف حساب , يمنحها صكا إما أن يكون مليئا بمنجزات تستحق الشكر والثناء أو بإخفاقات من حق صاحبها كما من حق المجتمع أن يعرفها ويصادق على أسباب خروجها .. فهل نترقب " خلوة " تكرس فيها هذه المباديء , يسجل الرئيس فيها تميزا فوق ما حقق , يؤذن بأسلوب جديد في الحكم وقاعدته آلية استبعاد واختيار الوزراء , ليكون نهجا تتوارثه الحكومات المتعاقبة وتسير على هديه , هذا هو بيت القصيد .