قررت أن أسلك طريقا قديما إعتدت أن أسلكه في سن مبكرة كثيرا , عمان كما عرفتها في صغري كانت وسط البلد وجبل القلعة وجبل الحسين والدوار الأول ولا أحدثكم عن اللويبدة الراقية الفخمة .
وإذ مشيت تملأ أنفي رائحة الليمون صيفا تنافسها روائح أشجار السرو والتين .
تغيرت كثيرا وكثيرا جدا , فأستبدلت هذه الروائح بأخرى ليست بأفضل منها , عوادم السيارات وبقايا موائد الإفطار في حاويات الألمنيوم الصدئة , لا مكان لشجر الليمون وقد تداعت أشجار السرو على سيقانها ظمآنة لم تعد تطلق ذات الروائح المعطرة لما تحفها نسمات خفيفة تهب ناعمة من جهة الغرب وقليلا قليلا كانت بالكاد أن تحمل معها بعض الغبار .
قررت أن أسلك الطريق الى جبل القلعة , فوجدته مسيجا ممنوع المرور إليه وقد كنت أجوله ركنا ركنا وزاوية زاوية حفظت أثاره قطعة قطعة وسميت أشجاره شجرة شجرة .. لم تعد أشجاره هي ذاتها فقد إنطفأت خضرتها , هذه يابسة تلك تتداعى تسقط أو تكاد وتلك قد إقتلعت ليزرع في محلها عمودا من الإسمنت .
لماذا ملأتم هذا الجبل بالخرسان وحشدتم حوله كل الأسوار التي أمكنكم أن تحشدوها , لم يعد الجبل بريئا بل أضحى حبيسا أثاره وطبيعته يتيما في إطلالته الخلابة على وسط البلد .
نزولا من الطريق المؤدي الى وسط البلد الى جوار مبنى البريد القديم وموقف سيرفيس جبل الحسين من الشرق يطل بنا في صعوده الى جبل الحسين جوار على بوابة قصر رغدان الأنيقة ونسلم على حرس البوابة نلتقط بعضا من حركاتهم العسكرية الرشيقة .. في شارع السلط يواجهك جبري ومطعم القدس وكشك الكتب بالمناسبة كانت كل أكشاك وسط البلد تبيع الطتب التي كانت تلقى رواجا كبيرا .. وبائع العصير المثلج وكنافة حبيبة عند جدران مبنى البنك العربي وفول وحمص هاشم وقد نشر بعض غلمانه في عربات خشبية صففت فوقها صحون الحمص والفول وشرحات البصل والشطة تجوب المحال التجارية توزع طلباتها .. أين مقهى السنترال ؟. ..
تمشي نحو ساحة المسجد الحسيني الكبير لتداهمك روائح البخور والعطور الباكستانية التي يبيعها باكستانيون إستقر بهم الترحال في عمان منذ سنين طويلة ولا تنسى أن تمر على سوق الشابسوغ حيث جميلات عمان الراقيات يتسوقن وقد ملأن الفضاء بروائح العطور الناعمة كن أفضل زبائنه وكان أفضل أسواقهن وارفف المحال الأنيقة بالفساتين الباريسية والأحذية والأقمشة المطرزة وغير المطرزة وتلك الحريرية ذات الملمس الرائع قبل أن تلمع ويخطف عينيك بريق يتلالأ من جهة اليسار هذا هو سوق الذهب وتمضي الى سوق السكر، وسوق البخارية، سوق البلابسة ( وسوق الجمعة، وسوق وادي السرور، وسوق الخضار وسوق اليمنية، وسوق الحبوب، وسوق الحلال، ، وسوق السعادة، وسوق الأنتيكا، .لم يعد من هذه الأسواق شيء الا أسماءها .
تقف في منتصف كراجات الساحة الهاشمية , هذا هو سفيس الجوفة وذاك يذهب الى التاج والثالث الى الأشرفية وهناك من بعيد يأتيك سرفيس المحطة ذاهبا الى ماركا قرب المطار أما إن أردت أن تذهب الى صويلح فهناك في العبدلي تجد الحافلات التي تقلك اليها , هذا سرفيس عظيم يتسع الى أربعة أو خمسة ركاب , ما أجملها من عادة تلك التي تمارسها يوميا عندما تضع الأجرة بيد السائق « بريزة « فيحرص على أن يعيد لك ثلاثة قروش حمراء كبيرة تمكنك من شراء حبة « بوظة « الإيما .
هذه سيارات قوية تصعد جبالا واقفة , يقودها سواقين مهرة , وكم كانت تصيبني الدهشة والمتعة في آن معا وأنا أتابع سيارت السرفيس من نوع مرسيدس وهي تصعد جبل التاج .. تقف السيارة في منتصف الطلوع , فهذا راكب بلغ مبتغاه , عندك لو سمحت .. لا يتأفف السائق وإن كان يكتم غيظه , لكنها بالنسبة له فرصة لفحص الكفاءة وقليل من الإستعراض , تقف السيارة في منتصف الطلوع وقفة القائم وهي إذ مشت كان الرهان أن لا تتزحزح الى الخلف قيد أنملة وهكذا كان ..
ولا أحدثكم عن المقاهي وابرزها الجامعة العربية ولا عن محلات الصرافه والأنتيك والبازارات الشرقية التي هجرت وسط البلد وكان تعج بالسياح .. تعالوا نجلس عند حديقة المدرج الروماني أين الحديقة .. لقد دهمها بلاط الساحة , وهل كانت تحتاج الى كل هذا السيراميك لتبدو أجمل ولم تبد كذلك , أين المكتبة التي كانت الى جوار الحديقة ؟.
تعود بي قدماي ولم تتعب , الى طلوع سينما الخيام زاهية الأضواء وقد ملأت جدرانها إعلانات آخر الأفلام الهندية وكان الناس يرتدون أفضل ما عندهم إستعدادا لحضور حفلة في سينما الخيام , شبان وفتيات وعائلات , و تمر من عند سيرفيس جبل الحسين يطلع بك اليه من الغرب وبالمناسبة كانت سيارات خدمة ركاب عمان إسمها سفيس قبل أن يدخل عليها المتفذلكين بأسماء لا ترتبط فيها بصلة . مثل توصيلة وغيرها .. أين هو السرفيس وأين هي هذه السينما العريقة لقد أضحت خرابا !!.
..
هذه عمان التي كنت أعرفها وكنتم تعرفونها , ذهب التطوير غير المدروس بأفضل ما فيها وما أبقى منها الا ما هو أسوأ .
الرأي