قبل ان يصبح الإرهاب ظاهرة عالمية، ويتحول الى تحد شامل يخاطب مختلف الدول، كانت هذه الظاهرة لازمة من لزوميات الشرق الاوسط على مدى سنوات طوال، تخص البلدان العربية في المقام الاول، تتغذى من عوامل الفقر والظلم والتهميش، تتدثر بعباءة الدين، تستثمر في الاخفاقات على كل صعيد، وتتفشى في اوساط محدودة وقابلة للتشخيص، الامر الذي مكن الدول والحكومات من ادارة الازمة وعزلها الى حد ما، واحتوائها بهذا القدر او ذاك، على نحو يجعل منها مجرد حالة قليلة الأثر والتأثير في مجرى حياة الانظمة والمجتمعات.
غير ان جيلاً من الارهابيين بدأ يظهر في السنوات القليلة الماضية، راكم على ما اسسه الجيل السابق له، وراح يطور من خطابه واساليبه وقدراته، ويرفع من وتيرة هجماته الوحشية، ويزيدها حدة واتساعاً، مستفيداً من حالات الفوضى غير المسبوقة، ومستثمراً في ضعف وتآكل مقومات الانظمة السلطوية، المفتقرة لأي قدرة على مواجهة هذا المتغير سوى بأدواتها الامنية، الامر الذي ادى الى مفاقمة هذه الظاهرة، ونجاحها في بعض الاحيان في انتزاع حيز جغرافي خاص بها، خصوصاً في المشرق العربي.
وأحسب ان هذا التحول النوعي، قل الطفرة الارهابية، التي كان تنظيم "داعش" خير معبر عنها، هي التي أنجبت ما يمكن ان نسميه "الارهابيون الجدد"، هؤلاء الذين تفوقوا على سابقيهم من عدة نواحٍ، بما في ذلك تصنيع اسلحتهم بصورة سهلة نسبياً، واستخدام التكنولوجيا الحديثة على نحو مكثف، واستقطاب فئات اكثر تعليماً، وامتلاك معدات اشد فتكاً، ومصادر تمويل أغزر، وفوق ذلك توسيع المواجهات ونقلها من النطاق الاقليمي الى فضاء دولي ارحب.
بكلام آخر، فقد بدا الارهابيون الجدد أكثر تأهيلاً من جيل الآباء المؤسسين لهذه الظاهرة التي كانت تنمو على الهوامش، وصاروا اكثر مراساً واشد شكيمة، بل واقوى جاذبية من سابقيهم، الذين لم ينجحوا في لفت الانظار اليهم الا مرة واحدة يوم 11/9/2001. كما تجلت قدرات هؤلاء "الجدد" في نقل المواجهات وتكرارها بوتيرة عالية الى قلب المدن والعواصم في الشرق وفي الغرب، ناهيك عن وفرة انتاجهم من الانتحاريين المتسابقين على تفجير انفسهم في كل مكان يستطيعون الوصول اليه، بمن في ذلك الذئاب المنفردة.
ومع ان ظاهرة الارهابيين الجدد تستحق دراسات معمقة، واجراء بحوث ميدانية كثيرة للوقوف على سماتها الرئيسة وديناميات تطوراتها السريعة، الا ان مراقبة هذه الظاهرة بذهنية تستبعد الاستنتاجات السهلة، وترصد قوى الدفع الكامنة خلفها بدقة، تساعد بالضرورة الموضوعية على فهمها بصورة افضل مما تلهج به الألسن الرسمية، ومن ثمة مقاربة جوهرها العميق بطريقة اكثر فاعلية، وبالتالي اجتراح الوسائل والادوات والاساليب الأنجع في مقاومتها والحد من تغولها.
نقول ذلك على خلفية الاعتقاد الرائج على نطاق واسع، ان القضاء على الارهاب في معاقله الرئيسة، خصوصاً في الموصل وفي الرقة، واخراجه من المدن والتجمعات السكانية الكبيرة، سوف يشكل خشبة الخلاص من هذه الظاهرة المروعة، ويجعل العالم يتنفس الصعداء بعد حبس انفاس طال امده. غير ان لا شيء يدل على اننا نقف على اعتاب عالم خال من الارهاب ذي الجذور الضاربة عميقاً في التربة الاجتماعية والدينية، وان نهاية الحرب الدولية على هذه الظاهرة باتت وشيكة.
خلاصة القول، ان من المبكر تأبين الارهابيين الجدد، حتى وان خرجوا مثخنين من عاصمتيهما في الموصل والرقة، ومشتتين في طول وعرض البوادي السورية والعراقية. فنحن امام ظاهرة لن تنتهي هكذا بضربة عسكرية كبيرة، وتطوى رايتها السوداء بالمعالجات الامنية والحربية، طالما ان العوامل التي ادت الى نشوء هذه الظاهرة، وانتشارها على هذا النحو، ما تزال قائمة، ان لم نقل ان من المرجح تعمقها على ضوء ما تغري به الانتصارات العسكرية المؤقتة من نهايات سعيدة.
ولعل نظرة خاطفة الى ما جرى لحركة طالبان الافغانية من اقتلاع واسع النطاق، وما لحق بها من ضربات اميركية متواصلة على مدى اكثر من عقد، يشير الى ان المعالجات بالحديد والنار لم تنجح في القضاء على تلك الحركة، التي عادت مؤخراً بقوة الى قلب المسرح الافغاني، وبدأت تملي نفسها مجدداً على سائر الاطراف المعنية، بما في ذلك عدوها الولايات المتحدة.
الغد