ربما كانت القبيلة, وكان الحزب, وكانت المؤسسة.. ربما كان كل اولئك قيوداً على المبدع.. هذا ما قد نقبله بتحفظ, لأن في المبدعين من يستشعر انتماء حقيقياً للقبيلة أو الحزب او المؤسسة, ولأن مفهوم «المثقف العضوي» قد يتنزّل على حالات ابداعية يمكن تحققها ضمن هذه الأطر..
أما أن يكون (ابداع) – ومن أية درجة – دون وطن أو دون دين أو دون منظومة قيميّة واخلاقية, فإن ذلك اشبه شيء بتقرير أن الابداع ممكن بدوره «انسان», وهو دليل فهم خاطئ لمعنى حرية الاديب أو الكاتب, أو دليل غرور, أو دليل مراهقة فكرية..
و»الدين» بوجه خاص, يكاد يكون القاسم المشترك في معظم الاعمال الادبية الخالدة, لأن سؤال الدين هو سؤال الانسان في كل العصور. ولو ذهبنا نستقرئ ألوان حضور الدين في أعمال تولستوي ودستويفسكي واليوت وجوته وطاغور ونجيب محفوظ ومحمد اقبال وهيرمان هسه, فإننا نكون في وفرة من البراهين على سطحية اولئك الذين يزعمون إمكان وجود ابداع معتبر أو ذي قيمة خارج اطار الاسئلة الوجودية الكبرى التي هي مفاتيح التجربة الدينية ومناط القلق المعرفي على نحو ما نجد في اعمال هؤلاء العباقرة وغيرهم.
حتى في المبدعين من ذوي النزعات العلمانية, مثل مكسيم جوركي وبابلو نيرودا وبريخت, فإن للدين حضوراً لا يخطئه النظر السليم فيها, فلجوركي مثلاً مناجاة لله سبحانه تبعث على التأمل, ولبابلو نيرودا ميل الى الايمان ابداه في جوابه على سؤال وجهه اليه احد الصحفيين عما اذا كان استشعر قرباً من الله ذات يوم, حيث قال انه استشعر ذلك حينما دخل مسجداً في جنوب شرق اسيا واسند ظهره الى جدار فيه وذهب في تأمل عميق, ومن يقرأ «دائرة الطباشير القوقازية» لبريخت يدهشه ما يتخايل فيها من قيم ايمانية, وكل ما سبق مما تنأى دلالاته عن فهم من يزيّنون قبل ان يحصرموا, ومن يوحي اليهم غرورهم, أو ما يتوهمونه من حداثة (أو ما وراء حداثة) ينتسبون اليها, بفطير من القول ولحن من التفكير وسخيف من الادّعاء بحقهم في الانفلات من كل شرط انساني, ولا سيما «الدين» وقيمه واخلاقياته..
***
إه هؤلاء «اغمار» يتفلسفون دون أن يكون لهم عدة الفيلسوف او مكابداته المعرفية, وينظرون دون ان يحصّلوا منهج نظر, ويغرّهم ان ثمة من يدفع في ظهورهم, ويريد لعملتهم الزائفة أن تملأ سوق الثقافة, وأن تكون بعض ما ينفق فيها, في غيبة النقد الصارم الملتزم (والموضوعي) الذي يكشف أحجامهم (الصغيرة جداً) ولا يعدو بهم طورهم من حيث كونهم «بالونات منفوخة» لا غير.
الرأي