لا شك بان الحديث عن الفساد يستحوذ على اهتمامات المواطنين في هذه الأيام، لتسببه في تفاقم الأوضاع الاقتصادية والمالية التي يمر بها بلدنا في مقابل عدم جدية الجهات المعنية في التعاطي مع هذه الظاهرة الخطيرة ووضع حد لها. وهي من الأمور والقناعات التي تكرست لدى المواطن، خاصة وهو يشاهد او يسمع عن فاسدين دون ان تتم محاسبتهم ومعاقبتهم. الامر الذي شجع بعض من يعملون في الوظائف الحكومية والرسمية على استباحة المال العام، بطريقة تشعرك بان هذا المال لا بواكي له. وهو ما تعكسه تصرفات او مواقف هذا البعض عندما توكل له مهمة التعامل مع أموال الدولة بطريقة تنم عن عدم إحساس بالمسؤولية ، ليقع في شرك الفساد الذي يتخذ العديد من الصور والاشكال ، كالواسطة والمحسوبية والشللية واستغلال الوظيفة والتلاعب والغش بالعطاءات والمشاريع الحكومية والعبث بالمال العام ونهبه والاستهتار والاستخفاف به .
ما يذكرني بصورة حصلت في احدى المؤسسات الرسمية ، والتي سبق ان تناولتها ، وكيف ان موقف مدير المؤسسة اللامسؤول ، شجع التاجر على وضع أسعار مبالغ فيها مقابل السلع التي يريد هذا المدير شراؤها للمؤسسة . بطريقة تعكس نظرته السلبية وغيره من المسؤولين الى المال العام. وذلك عندما قام بشراء مجموعة من الصور والرسومات والمناظر ليضفي جوا احتفاليا على المؤسسة احتفاء بإحدى المناسبات الوطنية. حيث تمت عملية الشراء دون ان يتلطف عطوفته بمساومة التاجر ومفاصلته على الأسعار، وان عدم اكتراثه بالمال العام ورد فعله السلبي تجاه موضوع الأسعار شجع التاجر على وضع السعر الذي يريده. وكان اللافت ان هذا المسؤول قد حصل على موافقة مديره بواسطة الهاتف، وهو يتحدث اليه بلغة المتعاطف مع التاجر تقديرا وتثمينا لحضوره الى المؤسسة في يوم عطلة. وكان يستدل من نبرة صوته على ان عملية الشراء قد تمت، وانه يريد ان يضعه بصورة الوضع .. مخاطبا مديره، باننا قمنا بشراء مجموعة من الصور والمناظر الجميلة بسعر لا يكاد يذكر إذا ما قورن بالمبالغ التي خصصتها الحكومة لتغطية تكاليف هذه المناسبة الغالية، وان هذا السعر لا يعادل مياومات مسؤول في الخارج، وان البلد يصرف الكثير والقليل، ولنعتبر هذه المصاريف من ضمنها. وهذا الحوار الذي دار من طرف واحد بالطبع، تم على مسمع التاجر الذي كان يوزع ابتسامات اعجابا وتقديرا للدور الذي قام به المسؤول نيابة عنه .
عندها خطر ببالي أكثر من سؤال .. ماذا لو قام هذا المسؤول بشراء مثل هذه الصور لبيته .. فهل كان لديه الاستعداد للعب نفس الدور واخذ نفس الموقف، وبالتالي دفع هذا السعر المرتفع؟ وهل سيقوم بشرائها دون مساومة التاجر ومفاصلته على كل صغيرة وكبيرة؟ وأين دور الجهات المعنية بالرقابة على المال العام؟ وهل مهمتها التدقيق على الفاتورة من ناحية توقيعها حسب الأصول والتأكد من استكمال الإجراءات، دون الدخول في تفاصيل هذه الأسعار وتقييمها ومعرفة مدى واقعيتها ومنطقيتها من خلال مقارنتها بأسعار السوق؟ .
ما يؤكد أهمية العمل المؤسسي عند التعاطي مع المال العام ومن خلال تشكيل لجان مالية ورقابية تكون لها الكلمة الفصل في مثل هذه الحالات الوطنية الحساسة.