أتاحت ثورة الاتصالات للملايين الذين لم يستطيعوا سبيلا للحج أن يعايشوا الحجاج لحظة بلحظة . ما طافوا وما سعوا وما نزلوا واديا ولا صعدوا جبلا إلا كانوا معهم .وتكاد الشاشات تنطق وهي ترصد كبد الرحلة وشوق اللقاء , وكأن المشاهدين يتشبثون بأستار الكعبة يلهجون بالدعاء .متجردين من متاع الدنيا وأغراضها لا يسترهم غير أكفانهم . وهي الباقية معهم من هذه الدنيا .
وكأني برائد النهضة عبدالرحمن الكواكبي في مؤتمر " أم القرى " الذي تخيل فيه أمة الإسلام تتداعى في مكة لبحث عللها وتلمس سبل النهوض والتقدم . بجواره مالكوم إكس رائد حركة الحقوق المدنية في أميركا يرى في الحج جوابا عمليا على أسئلة المساواة والعدالة والحرية . فالحج عبادة جماعية توحد الأمة بقدر ما هو تأكيد على فردية الإنسان التائق إلى الخلاص ولو ضل الناس جميعا . فتحار بين الشجرة والغابة أيهما أجمل ؟
كم كان مفيدا لو أن الطاقة الروحية الهائلة التي تتكثف في لحظة واحدة ومكان واحد تتحول إلى طاقة فكرية وعملية تساهم في خلاص الأمة ونهوضها تماما كما في حال الأفراد . في كل عام تحضر السياسة بشكل سخيف في الحج ، في الثمانينات في أوج الثورة الإسلامية في إيران كانت مسيرات " البراءة " من قوى الاستكبار التي ينظمها الحجيج الإيراني شاغل الموسم ، وهذه الأيام اكتفي من السياسة بما يقوله خطيب نمرة الذي لا يتغير أبدا عن نبذ الإرهاب . وقد اثار حديثه عن نظام اقتصادي إسلامي بديل لمواجهة الأزمة المالية العالمية حفيظة المتشددين اليمينيين في أميركا .
إلا أن مفاجأة موسم الحج كانت تصريحات رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس و خطابه التكفيري عن حماس التي شببها بمشركي قريش والقرامطة الذين منعوا الناس من الحج .
كم كان حريا بعباس أن يتجرد حقيقة ويرتقي لبياض الثياب ، ويفتح صفحة جديدة مع حماس بموسم الحج المنهي فيه عن الرفث في الحديث . خصوصا أن المواطن الفلسطيني لا يمكن أن تنطلي عليه قصة المشركين والقرامطة التي انطلت حتى على بعض الكتاب . ففي حج العام الماضي كان الانقسام الفلسطيني وتوزع الحجاج على وزارتي أوقاف في غزة ورام الله ، ولأن علاقة حماس بمصر لم تكن قد تردت فقد سمح للحجاج الوزارتين بالحج . هذا العام قامت حماس وعلى شاشة التلفزة في بث حي بتوزيع دور الحجاج في شفافية لم يشهدها بلد إسلامي . في المقابل وصلت قوائم رام الله جاهزة بناء على حسابات الانقسام . وبسبب تردي علاقة حماس بمصر لم يسمح لحجاج وزراة أوقاف غزة بالحج .
هل وصفت حماس وهي صاحبة الخطاب الديني عباس بأنه من مشركي مكة والقرامطة ؟ لم تفعل هذا ولن تفعل . فالخلاف السياسي لا يجوز بالحج أو غيره أن ينزلق إلى منحدر التكفير .والقضية الأساسية هي أن ثالث الحرمين الذي تشد له الرحال لا يزال محتلا يمنع المسملون من الصلاة فيه . وحري بأمة الإسلام أن تجعل من موسم الحج فرصة لتذكير أمة الإسلام بواجبها تجاه القدس . فالقضية ليست من يقرر دور الحجاج القضية من يدنس الحرم ويحفر الأنفاق من تحته ويفسد في الأرض . ولا يرده غير أهل الثغور وهم أقرب إلى الله من المتشبثين بأستار الكعبة . وكأن عبدالله بن المبارك الذي كان يرابط في طرطوس قبل أكثر من ألف عام كان يتحدث عنهم :
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا * لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه * فنحورنا بدمائنا تتخضب
وصدق الله في كتابه :
"أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام * كمن آمن بالله * وجاهد في سبيل الله * لا يستوون عند الله * والله لا يهدي القوم الظالمين "
لا يستوون عند الله ولا عند الناس . والثياب البيض وحدها ليست دليلا على التجرد من متاع الدنيا وأغراضها . بل قد تكون هي ذاتها غرضا ومتاعا .
abuhilala@yahoo.com
الغد