كنت أعتقد بأنني والدهشة قد تفارقنا منذ انتهاء صلاحية طفولتي البائسة بحكم قطار العمر وبحكم التجارب المكثفة في كل محطة من محطاته فقد عركتني الحياة هجوما وعركتها دفاعا عن النفس الى ان توصلنا آخيرا الى اتفاقية سلام دائمة ثلاثة أرباعها لصالح الطرف المنتصر (الحياة) والربع المتبقي لصالح الطرف المهزوم (أنا) ومنذ ذلك الوقت وأنا لا أجد في القطار ولا محطاته ولا الطرفين المهزوم والمنتصر ما يثير دهشتي من قريب ولا بعيد.
ثم اكتشفت بأنني ظالم للدهشة ولنفسي حين تتالت الدهشات المتدفقة من قلب ووجدان الرجل الأول ملك القلوب والدهشة معا .
مشفى الكرك الحكومي الذي ضاق به الكركيون ذرعا وتناوله الإعلام الثلاثي (مرئي ومسموع ومكتوب) مرارا وتكرارا لم يخدش قلب بيروقراطي واحد من المتمترسين خلف سواتر الروتين الرملية نهارا ، وتنظير الصالونات السياسية ليلا.
فظهر الملك الرحيم فجأة بلا سجاد أحمر ولا نوتات موسيقية ولا هالة من البيروقراطيين ولا شبيبة الكمبيوتر المحمول ليسمع ويرى ما كان مفترضا ان يسمعه ويراه من خلال من أغرقوا انفسهم مثلما أغرقوا مرضى المشفى بمياه الروتين الآسنة ولعنة الصادر والوارد .
لم يدخل جلالته الى قاعة فارهة دهنت حديثا و زينت باكاليل الورود ليرى ويستمع الى عرض اعده شبيبة الكمبيوتر المحمول بطريقة الشرائح (بور بوينت ) فجلالته يعرف جيدا بان شرائحهم تعرض ما يريدون لا ما يجري فعلا .
ملك الدهشة دخل غرف المرضى مباشرة فهناك (البور بوينت) الحقيقي بلا مكياج يحيل القميء جميلا والمؤسف رائعا وطبيب مهمل يتحول الى فارس الحلقة، وممرضة تستخدم الهاتف لمدة أطول من ساعات عملها تتحول الى ملا ك رحمة ثم ننشد فيها ( بيض الحمائم حسبهنه).
حين دخل جلالته بالتأكيد نادته عجوز كركية لم ترى أي وزيرا للصحة في حياتها الممتدة على سبعة عقود ونيف مثلما لم ترى النائب الذي انتخبته رغم مرضها يوم أحضروها من بيتها بسيارة لتدلي بصوتها ثم عادت مشيا على أقدامها التي بالكاد تحملها ، إسمها الحاجة فاطمة او خضرا أو أم عبدالله مهما كان اسمها هي لا تعرف في الدنيا كلها الا وطن واحد اسمه الأردن ومليكه الرحيم الذي كان قلب الأم يخبرها دائما بإنه سيدخل في أية لحظة وحين دخل المليك نادته بلهجتها الكركية التي تفوح منها رائحة الشيح من على أكتاف شيحان : هلا يمّه.
قبلته الف مرة ومرة وكل مرة أصدق مما قبلها وقالت له كل ما اختزنه قلبها في العقود العجاف وقلب قريتها كلها ، وملك الدهشة يصغي و يمنحها المزيد المزيد من الوقت ثم يتنقل بين المرضى ويصغي أيضا ثم يطلب طاقم المشفى ويصغي أيضا ثم يغادرونجواه تقول : انا لك يا حاجة فاطمة.
المليك الذي يتخفى في البشير ويشرق مع الشمس في البوادي ويزور عجوزا منسية في بيت طيني منسي في قرية منسية لم تطأها قدم مسؤول ويظهر فجأة في مشفى الكرك والزرقاء وكل المدن والمخيمات ويستمع الى برنامج الوكيل ويتدخل لنصرة أردني هنا وأردنية هناك ،هذا المليك لا يعيد الينا حقوقنا فقط بل يعيد الي مستحيلا فقدته ( روعة الدهشة) .
المليك الذي يفعل ذلك كله بالإضافة الى مهامه الجسام من أين يأتي بكل هذا الوقت ؟ من خطاب الكونجرس الذي أدهش العالم الى الرياض الى السلط الى البشير الى الكرك الى بيته الى مجلس الأمة الى البادية الى شرم الشيخ الى مكتبه ومن ذلك كله الى قلوبنا مباشرة ، ليس هناك سوى جواب واحد( مليك القلوب والدهشة).
أما الرسائل الملكية في الزيارة المفاجئة الى مشفى الكرك وما سبقها وما سيليها من زيارات مماثلة فإنني أقرأها بتواضع على أنها :-
الأردن أولا ليس مجرد شعار بل عمل جاد ورحلة كد لن توقفها بيروقراطية المركز.
من لا يريد أن يعمل من الصف الأول فإن المليك لن يتردد بالقيام بعمله على أن كل صبر الى نفاذ .
الوحدة الوطنية هي وحدة الجغرافيا بالمعنى الأشمل فلا فرق بين عمان ومعان والكرك وإربد و عبدون وبصيرا فكلها دقات قلب جلالته.
ان ترك الحكومة تتابع نفسها مدعاة للترهل والعودة الى الوراء لذلك فإن جلالته يتابع بنفسه كل ما صغر وكبر.
برنامج عمل جلالته اليومي و مهامه الجسام لم ولن تحول بينه وبين أبناء شعبة فهم همه الأول والثاني والثالث وما قبل الآخير والآخير أيضا.
الإعلام الوطني الصادق هو العيون التي يرى فيها جلالته الحقائق كما هي بلا تلطيف لما هو ليس لطيفا، وتلويث ما هو نقي.
العمل ثم العمل ثم العمل طريقنا الأوحد لبناء وطن العدل والمساواة .
المعارضة المنتمية هي التي تكون عونا للوطن لا عبئا عليه .
مجلس الأمة يجب أن يكون للإمة ومتابعة همومها لا هما اضافيا يحتاج لمتابعة.
أتمنى أن تكون رسائل جلالته قد وصلت فعلا الى مستحقيها........