كان الشاعر الجاهلي يتولى مهمة الإعلام حتى لو لم يكن له ألقاب محددة، فهو يهجو ويمدح تبعا لمتطلبات القبيلة، لأنه الناطق باسمها ولعل شاعر قبيلة غُزيّة الذي قال بأنه مجرد صدى لها يغزو ان غزت ويرشد ان رشدت هو النموذج رغم وفرة الامثلة في هذا السياق، وأذكر منها مثالين فقط عن شاعر وصف قبيلة بني عبد المدان بأن لهم أجسام بغال وعقول عصافير ثم استدار مئة وثمانين درجة بعد ان قبض الثمن وقال :
كأنك ايها المعطي بيانا وجسما من بني عبد المدان !
والمثال الثاني عن شاعر تسبب هجاؤه لأحد خصومه بأن اصبحت بناته السبع عوانس، لكنه بعد ان قبض الثمن قال :
يداك يدا صدق فكفّ مُبيدة
واخرى اذا ما ضمّ بالمال تنفق
هكذا يصبح البخيل والجبان في اغماضة عين فارسا لا يشق له غبار ...
ان اعلام ما قبل الدولة كان مرتهنا بتكسب ونُصرة ذوي القربى سواء كانوا على حق او على باطل، والنظم الشمولية رغم ادعاءاتها ومزاعمها بالحداثة ومنها دول صناعية كبرى استعادت ذلك الإعلام بحذافيره، ما دام الذي ليس معها وفي خندقها هو عدوها وما من ظلال رمادية بين الاسود والابيض، ومن المعروف ان تلك النظم دفعت الثمن عندما تفككت وانهارت واكتشفت بعد فوات الاوان ان الببغاء لا صوت لها ولا ضمير لأنها فقط تردد الصدى.
ولو امتلكت تلك النظم شيئا من النقد الذاتي والمراجعة وبالتالي الاعتراف بالاخطاء لتصويبها بدلا من ان تتحول الى خطايا لما كانت النهاية مأساوية.
اعلام الدول في حدهّ الادنى يمتلك رؤى واستراتيجيات ولديه مبادرات استباقية كما انه ليس مجرد ردود افعال غريزية مباشرة، لهذا فهو ليس سريع التناقض كالشاعرالجاهلي الذي يمدح ويهجو خلال اقل من يوم واحد!
ولكي ينجو الاعلام العربي من تلك الحمولة الباهظة التي طالما اعاقته عليه ان ينقد نفسه ويراجعها ولا يخجل ان يخشى من الاعتراف !!
الدستور