المعركة ضد التطرف والإرهاب تتصدر الأجندات الإقليمية والدولية. لكنّ أحد عناصر نجاح هذه المعركة، في شقيها السياسي والفكري، وعيها بأنّ التطرفَ تفاصيلُ وليس معنى عائماً وشعاراً فضفاضاً. وفي سبيل ضبط معيار التطرف، من المهم تأكيد فكرة أنّ المتطرف شخص لا يُقدّر مبدأ "الحرية للجميع"، وعليه فإنّ آفة الفكر المتطرف أنه لا يتأسس على الحرية والحقوق والمساواة. والتطرف ضِيقٌ بالعالم وتنوعه واختلافه. ولا تستوي المواجهة إلا بإيجاد نقيض هذا الفكر والاستثمار فيه وتوسيع مدياته.
لكن ثمة تطرف سياسي غير عنيف، يمتثل لأحكام القانون وينضبط بضوابطها، وإنْ تجاوزها فالقضاء له بالمرصاد. وهو، أي التطرف غير العنيف، ممثَلٌ في دول الغرب عموماً، بأحزاب سياسية وهيئات قانونية، تستوعبها حرية التعبير والمشاركة السياسية المتاحة في تلك الدول.
إنّ ضبط معيار التطرف والاشتغال على التفاصيل الجوهرية المتعلقة به ضروري لأمرين: أولهما الوصول إلى نقد جذري غير تلفيقي لمنظومة واسعة من الأفكار والسياسات المحافظة التي تختبئ خلف حائط محاربة الإرهاب، للتهرب من مسؤوليتها عن إنشاء هذا التطرف أو تأييده ورعايته، أو غضّ الطرف عن مواجهته بوضوح وشفافية. وثانيهما أنّ الحديث عن التطرف الديني لا يكتمل من دون الحديث عن الاستبداد والتسلط السياسي والحريات العامة، فالإرهاب يرضع من حليب التطرف الديني والاستبداد السياسي معاً.
ولعل أهمية الأمر الأول تكمن في أن أيّ جهدٍ تنويري مُرتجى في مجال الإصلاح الديني ومحاربة التطرف العنيف ينبغي أنْ يُؤسِس لمنهجٍ يُسقِط داعش والقاعدة وأبو الفضل العباس والنجباء من دائرة التدين؛ لأنّ أيّ تسويغٍ أو استثناء في هذا المضمار سيُبقي النقاش سرمدياً بشأن التباس التطرف بالدين واعتبار الأول جزءاً جوهريا، لا عرضياً، من الدين نفسه. أما أهمية الأمر الثاني فتكمن في مدى إلحاح ترسيخ الدولة الوطنية القوية بحكم القانون والقضاء المستقل للتعاطي الفعّال مع التطرف العنيف ومحاربة الإرهاب، والحيلولة دون إضرار الأمن بالحرية، وفي صدارتها حرية التعبير.
لقد أدرك الفيلسوف هيغل في تجربته أنّ الأفكار لا تستطيع تغيير العالم دفعة واحدة، مؤكداً أهمية التغيير من الداخل وبالتدريج المنطوي على قبول المساومة وتجزئة الأهداف وعدم حرق المراحل. والواقعية تحمي القيم والمثاليات ولا تطيح بها أو تفرّط فيها. وتصريف ذلك، مثالاً لا حصراً، أنه ليس المطلوب القضاء على إيران أو إسرائيل، بل المطلوب الضغط عليهما لمحاصرة تطرفهما كخطوة أولى للقضاء على ذلك التطرف في سلوكهما السياسي، وهو في جوهره عنيف؛ أيْ أنهما تمارسان إرهاب دولة، يتبدى في حالة إسرائيل في استمرار الاحتلال والاستيطان والحصار على الفلسطينيين ومنعهم من تقرير مصيرهم، ويتبدى في حالة إيران عبر نشرها المليشيات الطائفية وانتهاكها سيادة الدول وتجاوزها للقانون الدولي.
الغد