الهدف من دراسة التاريخ هو خدمة الحاضر والمستقبل، وانه لا معنى للاهتمام بوقائعه والغوص في تفاصيله إذا لم يكن مفيدا للحاضر الذي نعيشه والمستقبل الذي نطمح اليه.
فاهتمامنا بتاريخنا هو تعبير عن اهتمامنا بحاضرنا ومستقبلنا أكثر مما هو تعبير عن اهتمامنا بماضينا، لأن الماضي قد طويت صفحته بكل ما فيها من ايجابيات وسلبيات، من انتصارات وانكسارات ونجاحات واخفاقات.
لم يعد بإمكاننا تغيير اي شيء من وقائعه او تعديل اي مفصل من مفاصله، ولكن علينا ان نستفيد من دروسه وعبره في تغيير حاضرنا ورسم معالم مستقبلنا، ومن هنا ينبع سر اهتمامنا به وأهمية دراسته واستحضاره.
ستبقى قراءتنا للتاريخ ضربا من التسلية وفي أحسن الاحوال ضربا من معرفة ما جرى، ولا فرق في حياتنا بين ان نقرأ التاريخ ولا نفيد من التجارب التي تراكمت على طريقه، او نتابع المسلسلات والافلام الخيالية التي تساعدنا على قتل الوقت والاستمتاع او النفور من بعض المشاهد التي لا تغنينا في حقيقة الامر، ولا تجد لها صدى في عقولنا ومشاعرنا.
لعل أسوأ ما في قراءتنا للتاريخ العربي والاسلامي خاصة، ان بعضنا ينتقي جملة من الوقائع المتقادمة ويكتشف من خلالها مداخل لخلافات معاصرة تتبدد فيها طاقة الامة وقدراتها وتتعزز معها خلافاتها، وإذا كان العقلاء قد نجحوا في وعيها ووضعوها في اطارها التاريخي القديم بعد تنقيتها مما لحق بها من مبالغات، فان الجهلاء قد البسوها صيغة معاصرة وكأنها حدثت بالأمس.
ان وقوفنا عند بعض الاحداث التي أكل الدهر عليها وشرب، وكيف تعمل على تغييبنا عن واقعنا وما نحتاج الى معرفته، وتمثله في اعمالنا وسلوكنا في أنفسنا ومع الآخرين، فهذه المواقف هي مواقف جاهلة وسطحية مع تاريخنا القديم الذي هو أعظم واوسع من ان يختزل في واقعتين او ثلاث.
لكن اوروبا قد شهدت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حروبا مذهلة ذهبت فيها مئات الآلاف من الضحايا، كما شهدت في النصف الاول من القرن العشرين مجازر مروعة بلغت ضحاياه ما بين خمسين الى ستين مليونا من الضحايا، ومع كل ذلك استعادت اوروبا تماسكها وواصلت بناء حضارتها مستفيدة من التجربة في تقوية اواصر التعاون والتقارب السياسي والاقتصادي ونجحت في اسدال ستار كثيف على مجريات تلك الظروف ووضعها في زوايا النسيان.
لكن الحروب تنقسم لأربعة اجيال :
الجيل الاول: هو القتال بالسلاح الابيض (الفرسان )
الجيل الثاني: هو الاسلحة النارية، وفيها قال – كولت – مصمم المسدس الامريكي ماركة كولت، الآن يتساوى الشجاع والجبان .
الجيل الثالث: السلاح النووي دون مواجهة.
الجيل الرابع ان تترك عدوك يحارب نفسه بنفسه، باستخدام واستثمار الصراعات الفكرية والدينية وتأثيرها مثل ما حدث في العراق وسوريا وليبيا واليمن.
قال (روجيه جارودي) عن الجيل الرابع من الحروب الان يقاتل الغرب بالتكلفة الصفرية ـالعدو يقتل نفسه، العدو يدفع ثمن السلاح ثم يقتل نفسه به.
العدو يطلبنا للتدخل لإنقاذه فلا نقبل ....
التكلفة الصفرية تعني ان الغرب لا يخسر شيئا في الحروب ثم ينتصر ....
نحن بحاجة لمواجهة ذلك بالوعي الفكري
لان نار الفتنة تحرق الجميع بلا تمييز ولا رحمة.
قال الشاعر ابو اسحق الغزي:
مالي أرى الشمع يبكي في مواقده من حرقة النار ام من فرقة العسل
لكن هل التاريخ ينشر وينصف ويكشف السبب الحقيقي للاحتلال الامريكي للعراق عام 2003؟
كشفت وثائق ويكيلكس بأخطر وثائقها التي كشفت عنها عن السبب الرئيسي لاحتلال العراق.
امريكي وهو على فراش الموت وهو أحد زعماء فيدرالية الاخوة العالمية المنظمة السرية (التي تتحكم بأمريكا وغالبية الدول الغربية) يقول لا أحد يدرك نحن في المنظمة كم العراق مهم لنا
كمنظمة عالمية.(IFB)
حيث نجحنا بالتضليل على السببين الرئيسين لاحتلال العراق والتي اقتنع العالم بهما وهما:
1-العراق هو مركز الشرق الاوسط من ناحية جغرافية والسيطرة عليه تعني السيطرة على قلب الشرق الاوسط جغرافيا وعسكريا وحضاريا.
2-كما انه من ناحية اقتصادية يمتلك اكبر خزين نفطي بالإضافة الى النهرين ، والكثير من المعادن المهمة المكتشفة وغير المكتشفة.
لكن الحقيقة ان هذين السببين ثانويين بالنسبة لاستراتيجيتنا الخفية ،فلو كانا هما الاساسيين كما اوحينا للجميع لما اضطررنا لاحتلال العراق لان صدام حسين كان مستعدا لتقديم كل التنازلات لنا ،يمنحنا حق استثمار النفط كما نرغب وكذلك التعاون العسكري الكامل معنا بما فيه انشاء قواعد عسكرية مشتركة في انحاء العراق .
لكن طموحاتنا ازاء هذا البلد اكبر من امكانات صدام مهما اراد التنازل لنا .
استراتيجيتنا السياسية والدينية تتطلب وجودنا المباشر على ارض العراق .
حيث انه يقع في قلب القطبين المتصارعين الشيعي الايراني والسني السعودي، وشعب العراق يتنوع من شيعة وسنة بالإضافة للأكراد والتركمان والمسيحيين وغيرهم ،ويصلح لتعميق الشقة والخلاف في المنطقة بين الشيعة والسنة .
كما ان للعراق اهمية روحية تاريخية خطيرة بالنسبة لنا حيث حضارتنا الغربية نسخة محدثة من الحضارة العراقية القديمة .
لقد نجحنا بفضل دعم اصدقائنا القادة الاكراد والاسرائيليين والايرانيين والسعوديين ان نقنع قادة الشيعة في العراق والباقي الناقمين على صدام من السنة ان يكونوا اداة طيعة في مشروعنا التدميري للعراق والعالم الاسلامي .
(هذا مع العلم ان محمد حسنين هيكل قد كتب في كتابه عام 1996م بان صدام ارسل اخاه غير الشقيق – برزان – الى الحسن الثاني ملك المغرب ليتوسط له عند الامريكان لحل مشاكله ورفع الحصار عنه ، وفعلا اتصل الحسن الثاني بالإدارة الامريكية وقال لهم ماذا تريدون من صدام، فأجابوه:
يوافق على مد انبوب نفط كركوك – حيفا لإسرائيل
يعطي اسرائيل حصة في نفط كركوك
يسمح للشركات الاسرائيلية العمل بالعراق
يعمل صلح مع اسرائيل
قال لهم الحسن الثاني هذه شروط اسرائيلية وليست شروطكم، فقالوا ينفذهم ونرفع الحصار عنه
عاد برزان الى العراق من الرباط واخبر صدام بالشروط والتي رفضها صدام والقيادة !! )
لكننا حتى ننصف تاريخنا يجب ان نشجع المعرفة والبحث العلمي في الوطن العربي ،فغياب نظام السياسات العلمية التي يجب ان تلعب الدولة دورا رائدا به لمعالجة تشتت الجهود البحثية وضعف الجماعة العلمية في الدول العربية ،فلقد قل عدد الجمعيات العلمية وندرت نشاطاتها ،هذه النشاطات مهمة ليس فقط لتحفيز البحث العلمي وتوجيه اجندة الاولويات لكل اختصاص والدفع بالقضايا والتحليل العلمي الى الفضاء العمومي وتشكيل رأي عام محلي ،لكن ايضا لحماية الجماعة العلمية من بطش الدولة الدكتاتورية العربية وبطش بعض الجماعات المتطرفة ان كانت ذات غطاء ديني ام يساري غير ليبرالي .
يقدر عدد اعضاء هيئة التدريس الكلي في المنطقة العربية 180ألف ،اضافة الى 30ألف باحث يعملون بدوام كامل في مراكز متخصصة وبالتالي فان الفيلق الاكاديمي العلمي العربي العامل في البحث والتنمية يمكن تقديره 210ألف باحث ولا يزال هؤلاء الباحثون ينتجون 5000ورقة أكاديمية فقط ، الامر الذي يساوي 24ورقة لكل 1000مدرس جامعي وباحث بدوام كامل .
الوضع في المغرب العربي افضل منه في المشرق ،فقد ضاعفت تونس منشوراتها اربع مرات في اقل من عقد من الزمن من 540ورقة في عام 2000الى 2021ورقة في عام 2008محققة حصة قدرها 2%من منشورات العالم ،وكان لدى المغرب اندفاع قوي جدا في الانتاج من قبل ذلك بين عامي 1998و2004،كما خضعت الجزائر لتوسع حديث وسريع .
هناك ازدياد مهم في الانتاج في المشرق ،في كل من الاردن ولبنان والامارات العربية المتحدة والسعودية ، وشهدت مصر نموا بطيئا خلال السنوات الاولى من القرن الحادي والعشرين ،لكنها شهدت موجة من ارتفاع الانتاج في السنوات الست الاخيرة .
البحث العلمي ومجتمع المعرفة مهم جدا فلا بد من تشجيعه وتطويره فلا تتقدم الدولة دون تقدم البحث العلمي واصطياد المعرفة .
لكي نربح التعليم ايضا ولا نخسر التعلم فمن الضروري التركيز على العملية التربوية ،ليتعلم التلاميذ الفرق بين التعلم والتعليم في زمن الانفجار المعرفي الهائل في هذا العصر .
لكن اللغة هي العالم ،لأن ادراكه وفهمه وتحليله وتطوره يتم من خلال اللغة ،ودونها لا يوجد اتصال او تبادل للأفكار او الرموز والمعاني ،لان الافكار هي اللغة فلا توجد فكرة خارج اللغة لأن النظريات اللغوية والاتصالية القديمة والتي لا تزال شائعة لدينا .
ان الفكرة توجد اولا ثم تحملها اللغة لكي تعبر عنها .
بعد ثورة الالسنيات – اللغويات – العظمى ،التي طورت العلوم الاجتماعية اصبحت الفكرة هي اللغة ولا انفصال بينهما ومن ثم تطورت النظريات بأبحاثها على نحو هائل ، وتمددت النظريات والمفاهيم الألسنية حول النص ،ثم الخطابة والسرديات بعد ذلك لتشكل نقلة نوعية في تطور العلم الاجتماعي في الادب والسياسة والقانون والاجتماع بكل فروعه ، والتحليل الثقافي على نحو ادى الى تحول كيفي في مناهج دراسة هذه العلوم على اختلافها انطلاقا من ثورة ابحاث اللغة ونظرياتها ومناهجها .
أما التاريخ فيجب ان نقرأه بشكل جيد وصحيح وغير مشوه، مثلا قالوا ان الخليفة هارون الرشيد ليس له هم الا المتعة والنساء والمجون ،بينما الحقيقة انه خليفة كان ورعا ومتدينا يحج سنة ويغزو سنة اخرى ، وكان يطوف متخفيا بين الناس ليطلع على احوالهم وينصفهم ويعتبر عصره العصر الذهبي في الدولة العباسية .
التاريخ لا يرحم احدا وبه الكثير من الحقائق التي لم نطلع عليها ،فان تاريخنا العربي والاسلامي تاريخ عظيم خليل عميق ولكن حال دونه اعلام الاعداء وغير المنصفين الذين يجب ان نتحقق من كتاباتهم ومعلوماتهم .
dr.sami.alrashid@gmail.com