في الاخبار استضافت الجمعية الفلسفية الأردنية في الايام القليلة الماضية المؤتمر الفلسفي في دورته التاسعة تحت عنوان "التنوير في الفكر العربي" اذن فثمة جمعية للفلسفة في الاردن تحتضنها وتعقد لها المؤتمرات. بل ان مؤتمرها هذه المرة ينعقد تحت عنوان ملهم – بكسر الهاء وبفتحها – يبحث مسألة التنوير في الفكر العربي. والحقيقة ان في ذلك رسالة تبعث على الفرح لدعاة التنوير وطلاب الفلسفة في اجواء يكاد الظلام ان يختطف حاضر الامة ومستقبلها.
ونقلت الاخبار عن المشاركين دعوتهم الى احترام العقل، وحرية التفكير، والتمسك بالمنهج العلمي، من اجل تنوير الانسان ببيئته ومحيطه الاوسع والكون بعيداً عن الاساطير والخرافات. ودعوا في هذا السياق ايضاً الى الاعتماد على العلم من اجل عقلنة الثقافة وامتلاك نظرة متبصره لفهم العالم كفيلة بخلق نهضة تنويريه شامله وعميقه.
ان فينا اليوم جيل أردني ثان، لم يسمع او بالكاد سمع بكلمة " فلسفه " بعد ان تم اختطاف وزارة التربية والتعليم وكان من اوائل ضحاياها مادة الفلسفة التي تم اغتيالها عن سابق ترصد واصرار بعد ان كان يدرسها طلاب الثانوية من الفرع الادبي. وشيئاً فشيئاً غابت عن كتبنا المدرسية مصطلحات واختفت اخرى. ثم تجاوز الامر غياب المصطلحات ذات الدلالات التنويرية الى تغييب كائنات انسانيه لا تزال تعيش بيننا. فلم نعد نرى فيها صورة واحدة لامرأة او حتى طفله تكشف عن رأسها او تلبس فستاناً او تنوره.
الفلسفة عمرها من عمر الحضارة الإنسانية، وفي منطقتنا بدأت بعلم الكلام في المسيحية. واستأنفت طريقها في الاسلام مع حركة المعتزلة في القرنين الاول والثاني الهجري الذين قدموا العقل على النقل وجعلوه حاكماً على النص. فشن عليهم شيوخ السنة حرباً شعواء وكفروهم وقتل الحجاج شيخهم معبد الجهني في 80ه، وقتل هشام بن عبد الملك شيخهم غيلان الدمشقي في 105هـ. وبعد العصور الوسطى تقدمت الفلسفة وصنعت حضارات كبرى لا تزال تغمر العالم لكن خصومها لا يزالون على عنادهم معها ولا يرون في تلك الحضارات غير انها ديار كفر. ولما تطلعت ديارنا الى تلك الديار تتساءل عما وصلت اليه صارت هي الاخرى ديار كفر لا عيش فيها واهلها اهل جهالة لا تصالح معهم.
لان الاشياء في خواتيمها تنتمي الى طبيعتها، فان العقل الذي خلق ليكون اداة تفكير ذاهب الى ما خلق له، باق على انشغاله في البحث والتفسير، وفي السؤال والجواب، وفي التجريب والتعلم، وفي القياس. هو قد خلق لذلك، ان توقف عنه ضمر واختفى. ولعله يتزود بحافزه لمزاولة وظيفته من نواميس الكون وحكمة توازنه، ومن طبيعة الحياة في استمرار التغير في احوالها حتى صار التغير هو الثابت الوحيد فيها.
تكفينا ستة قرون من الوقوف على هامش الحياة التي لم تتوقف عن التغير. اليوم لم تعد مشكلتنا مع التغير وحسب، لان سرعة التغير المتزايدة اضافت الينا مشكلة أكثر تعقيداً. وان كان متاحاً لنا فيما مضى فرصة الانتظار قروناً سته، فقد لا تتيح لنا سرعة التغير في هذه الايام فرصة الانتظار للالتحاق بركب الحياة ولا حتى لعقود ستة.