مؤتمر 50 عاما على حرب الستة أيام: هزيمة حرب 67 لم تكن حتمية
22-05-2017 04:32 AM
عمون - انطلقت يوم امس (السبت 20 أيار/ مايو 2017) أعمال مؤتمر "خمسون عامًا على حرب حزيران/ يونيو 1967: مسارات الحرب وتداعياتها"، الذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات على مدى ثلاثة أيام في الدوحة. وتأسف الدكتور عزمي بشارة، المدير العام للمركز العربي في محاضرة بافتتاح المؤتمر، لأنه طوال نصف قرن، لم يَجرِ التطرّق - على نحوٍ علمي - إلى أكبر إخفاق عسكري عرفه العرب في تاريخهم الحديث، ولم يجر التطرق لهزيمة 1967 من منظور العلوم السياسيّة والعلوم العسكرية، وبأدواتها؛ في حين صدرت مئات الدراسات في إسرائيل والغرب في تحليل الحرب وأسبابها ونتائجها وتوثيقها، وفي تحليل كل معركة من معاركها، فضلًا عن كُتب السير الكثيرة التي كتبها القادة، ووزراء الخارجية، ووزراء الدفاع، وحتى الضباط. في المقابل، هناك ندرةً في الأدبيات البحثية العربية حول هذه الحرب.
أسباب الهزيمة وتمويهها، بعد حرب رسمت مسارات القضية...
وشدّد الدكتور عزمي على التبعات العميقة لحرب "الأيام الستة". وذكّر في هذا الشأن بأنّ حزيران/ يونيو 1967، وليس أيار/ مايو 1948، هو تاريخ نشوء إسرائيل الحقيقي (أو تثبيته على الأقل). فحتى انتصارها في تلك الحرب، كانت إسرائيل مشروعًا غير مستقرٍّ في نظر الحركة الصهيونيّة وما سُمّي "يهود الشتات" الذين أقنعتهم حرب 67 أنّ إسرائيل أكثر من مغامرة، وأنها مشروعٌ مضمون؛ فتكثّفت الهجرة إليها بعدها، وتدفقت الاستثمارات أضعافًا مضاعفةً. كما أنّ الولايات المتحدة الأميركية أبرمت التحالف الإستراتيجي معها، واقتنعت بفائدته العملية والرّهان عليها بعد هذه الحرب.
وأضاف المحاضر أن كل مسارات القضية الفلسطينية ترسمها تبعات حرب 1967، فبعد هذه الحرب طرحت إسرائيل مقايضة الأراضي التي احتلتها خلالها (ما عدا القدس) باتفاقيات سلامٍ مع الدول العربيّة. وأصبح مبدأ "أرض مقابل الاعتراف"، الذي رفعته إسرائيل في ما بعد شعارًا عربيًا بعد أن عُدِّل إلى "الأرض مقابل السلام"، والمعنى واحد في الحقيقة.
وتابع بشارة قائلا: "لم تتجلَّ الضربةُ التي تلقّتها الحركة القومية العربية (في حدود) أزمة الأنظمة التي تبنت القومية العربية أيديولوجية رسمية بعد هزيمتها في حرب 1967، بل أيضا في تفكيك الطرف العربي في الصراع العربي الإسرائيلي، وذلك عبر ظاهرة اتفاقيات الصلح المنفرد المصري والأردني والفلسطيني مع إسرائيل، وعمليات التفاوض المنفصلة". وتكمن المفارقة التاريخية الكبرى –بحسب المحاضر- في أنّ القومية العربية انحسرت كأيديولوجية رسمية. واستفادت من ذلك الأنظمة التي لم تتبن هذه العقيدة، واتجهت نحو السلام المنفرد مع إسرائيل، وغطت رغبتها هذه بضع سنوات بحجج مثل عدم التدخل في الشأن الفلسطيني، والحرص على ترك قضية فلسطين للفلسطينيين يقررون بشأنها. أما الأنظمة التي ظلت تتمسك بفكرة أن فلسطين قضية العرب كلهم، فلم تتنازل عن القضية ولكن ليس في الصراع مع إسرائيل، بل في صراعها على البقاء وتخوين المطالبين بالحرية والعدالة، وكذلك في المساومة بشأن موقعها الدولي والإقليمي.
وفي تقييمه لردود الفعل العربية بعد الحرب، استنكر الدكتور عزمي محاولة الأنظمة العربيّة تمويه الهزيمة، بتلطيف اللفظ واستخدام "النكسة" بديلا عن "الهزيمة"، فكأنّ الأمر يتعلّق بزلّةٍ محزنةٍ لأنظمة تسير عمومًا على طريق صحيح. والأسوأ من ذلك – في نظره – هو محاولة تجاوز ذلك بقلب الهزيمة انتصارًا بادعاء أن "إسرائيل لم تنجح في إطاحة ما سُمي "الأنظمة التقدمية"، وأنّ كلّ ما استطاعت فعله هو احتلال الأرض فقط (!!). فهذه فضيحة تستحق كُتبًا وأبحاثًا في تحليل البلاغة السياسية العربية والديماغوغيا التي تستبيح سائر المعايير العقلية". وعند الاعتراف بالفشل العسكري، يقترن ذلك مع التهويل في قدرات إسرائيل وإمكانياتها إلى حدود أُسطورية، بما في ذلك "المؤامرة اليهودية العالمية" وسيطرتها على أميركا؛ وهو ما استخدم لاحقاً في عملية تصفية القضية الفلسطينية وتبرير عمليات السلام المنفردة. "فإذا كانت إسرائيل تمتلك هذه القوى الخارقة يصبح أي فتات تقدمه على مائدة المفاوضات إنجازا مهما".
وحتى من التيارات المعارضة للأنظمة، كانت ردود الفعل مرتبكة، لأن التدقيق في ما جرى أثناء الحرب، والبحث في الإخفاقات العسكريّة والتخبط في صنع القرار السياسي، كانت أمورًا تُعَدُّ من المحظورات. في حين انشغل المثقفون العرب بعد الحرب بمسائل مثل الصدمة الحضاريّة أو صدمة الحداثة المجددة التي أحدثتها الحرب، وقارن بعضهم أثَرَها بغزو نابليون لمصر، كما انشغلوا بصدمة اكتشاف قوّة المؤسّسة العسكريّة الإسرائيليّة. ولعب نقد الصدمة الحضارية هذا لاحقاً دورا في ميلاد تيار أُعجِب بإسرائيل وسياسييها ومؤسساتها وضباطها، باعتبارها دولة حديثة.
وأضاف بشارة أن أدبيات الصدمة الحضاريّة، تلتها أدبيات يسارية، وأخرى أيديولوجية علمانيّة أو دينيّة يحاسب كلٌ منها الأنظمةَ من منطلقه، فتدّعي مثلًا أنّه لو كان النظام يتّبع الاشتراكيّة العلميّة لما هُزم في الحرب، ولو كان إسلاميًّا لما اندحرت جيوشه؛ أمّا دعاة الديمقراطيّة، فلم يترددوا في الجزم أنّه لو كانت الأنظمة العربيّة ديمقراطيّةً، ولو كان الشعب يشارك في صنع القرار، لما وقعت الكارثة.
وقال الدكتور عزمي إنّ سببَ الهزيمة ليس غيابَ الديمقراطية. فقد هَزمت ألمانيا النازية دولًا ديمقراطيّةً كثيرةً خلال الحرب العالمية الثانية، ولم تصمد فرنسا الديمقراطية أمام ألمانيا النازية، في حين صمدت بريطانيا الديمقراطيّة وروسيا الشيوعيّة؛ وفيتنام لم تنتصر في مقاومتها العدوان الأميركي عليها بفضل الديمقراطية، ولم يتحرّر جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي لأنّ أيديولوجيّة المقاومة اللبنانية كانت ديمقراطيّةً أو اشتراكيّةً علميّةً أو دينيةً مذهبيةً. وأكد في هذا السياق موقفه المبدئي قائلا "نحن لا نؤيّد العدالة الاجتماعية والديمقراطية الليبراليّة لناحية المشاركة السياسيّة والحريات والحقوق المدنيّة بحجة أنها تقدم أداءً أفضل في الحروب، بل من أجل العدالة والحرية ذاتهما، لأنّنا نؤمن أنهما أفضل من الظلم والعبودية". ونبه إلى أن للحرب الحديثة في عصرنا مقوماتٌ قائمة بذاتها: مثل التخطيط، والنجاعة، والتدريب، والانضباط، والتجهيز، والتسلح، والواقعية العسكرية، وتحديد العدوّ والأهداف بدقّة، والجهد الاستخباراتي، وتكامل القرار السياسي والعسكري أثناء الحرب... إلخ. وهذه المقومات يمكن أن تتوافر لدى اليساريين واليمينين، والمتدينين وغير المتدينين، والديمقراطيين وغير الديمقراطيين.
وخلص عزمي بشارة إلى أن التحرر من النّقاش الذي يُسخّر هزيمة 67 لإثبات تفوّقِ أيديولوجيةٍ على أخرى، والنظر بدقّة وصرامةٍ علميتين إلى مجريات تلك الحرب، يكشف بوضوح أنّ هذه الهزيمة لم تكن حتميّةً، لا بسبب طبيعة حضارتنا أو"تخلفنا"، ولا بسبب غياب العدالة الاجتماعيّة والديمقراطية. وكان ممكنًا أن يكون الأداء أفضل. وهذا، تحديدًا، ما يجب أن يُدرس: ما هي الأخطاء التي وقعت في هذه الحرب في العلاقة بين المستوى السياسي والعسكري في كلٍّ من سورية ومصر، وفي العلاقة بين القدرات العسكريّة وعمليّة صنع القرار السياسي؟ وكيف كان وضع الجيوش العربية وتدريبها وتسليحها، ووسائل اتصالها؟ ولماذا تضع خططًا لا تُنفَّذ؟ ثمة بالطّبع حاجةٌ إلى فهْم طبيعة النظام عند مقاربه هذه الإشكاليات، ولكنّ طبيعة النظام، على أهميتها ومصيريتها، لا توفر إجابة عينيّة عن كلّ إشكالية.
إضاءة جديدة على مجريات الحرب وتداعياتها
يبرز من برنامج جلسات مؤتمر "خمسون عامًا على حرب حزيران/ يونيو 1967: مسارات الحرب وتداعياتها"، المنحى العلمي الأكاديمي الذي حدده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في إعادة قراءة حرب الأيام الستة، بالبحث في الحرب ذاتها، من زاوية نظر التاريخ العسكري والتحليل الإستراتيجي.
وقد طرحت الجلسة الأولى للمؤتمر "سياقات الحرب على الجبهة المصرية"، وقدم خلالها الدكتور سيف الدين عبد الفتاح ورقة تحت عنوان "المهنية العسكرية وحرب حزيران/ يونيو 1967: محاولة لتفكيك ذهنية الهزيمة". وأشار فيها إلى حالة صراعية داخل أجنحة "العسكر" أدت إضافة إلى عوامل أخرى إلى الهزيمة عام 1967، وقال إن هذه الحرب كشفت ما يمكن تسميته بعقلية العسكر وذهنية الهزيمة.
وحاول الباحث عمر عاشور تفسير ما جرى على الجانب المصري في حرب الستة الأيام. فعلى الرغم من تفوق الجانب المصري خاصة، والعربي عامة، في العدد والعتاد، وكذلك التصعيد السياسي الصادر عن نظام الرئيس جمال عبد الناصر، ما قد يعكس جاهزيته العسكرية، فإن الأداء القتالي لم يواكب القدرات العسكرية والقرارات السياسية على المستويات التكتيكية والميدانية والإستراتيجية.
وتناولت الجلسة الثانية للمؤتمر الجبهة السورية عشية حرب حزيران/ يونيو 1967، فركز الباحث محمد الحاج علي على واقع الجيش السوري عشية حرب 1967، وانشغاله بالعمل السياسي والصراعات الداخلية؛ ما أثّر في استعداداته للدفاع عن الوطن (المهمة الرئيسة)، وفي منهجيته في إدارة الحرب وقيادتها، الأمر الذي كان من أهم عوامل الهزيمة. كما ناقشت ورقته تحت عنوان " العمليات العسكرية على الجبهة السورية: عشية حرب حزيران/ يونيو 1967" وضعية القوات المسلحة السورية وتمركزها القتالي في الجولان ليلة الخامس من حزيران/ يونيو، والخطط العسكرية الدفاعية عن الجولان، فضلًا عن إمكانياتها القتالية من العتاد والقوى البشرية. وتناولت وضعية القوات الإسرائيلية في سهل الحولة والجليل خلال الأيام الأولى لهذه الحرب. وقيّمت الورقة البنية التنظيمية للقوات السورية وتوزعها القتالي على الأرض، والتجهيز التحصيني للجولان وطبيعته الجغرافية، وما يمكن أن تقدمه للقوات المدافعة من خصائص. وختم الباحث الورقة بشرح الأعمال القتالية على الجبهة السورية، والأسباب العسكرية التي أدت إلى هزيمة الجيش السوري في هذه الحرب.
ودرس الباحث ومدير البحوث في المركز العربي جمال باروت "بعض آثار إعادة بناء الجيش السوري الانقلابية في هزيمة حزيران/ يونيو 1967". وأكد في ورقته أن عملية "إعادة بناء الجيش"، تمخضت خلال عشرين سنة عرفت فيها سورية نحو تسعة انقلابات عسكرية - سياسية ناجحة، عن تصفية منتظمة لخصوم الانقلابيين بطرق شتى، وشمل ذلك بدرجة رئيسة الضباط المحترفين. ولكنها توّجت بعد انقلاب الثامن من آذار/ مارس 1963، وتسريح نحو سبعمئة ضابط خلال أقل من ثلاثة شهور، واستدعاء ضباط مجندين احتياط للتحول إلى ضباط محترفين بدلًا منهم في إطار تبني صيغة "الجيش العقائدي". ووصل الصراع بين الكتل العسكرية إلى ذروته في أواسط عام 1965، داخل اللجنة العسكرية (السرية)، وبين القائد الأعلى ورئيس هيئة الأركان، وبين بعض قادة الوحدات الضاربة الخاصة والمدرعة ورئيس الأركان؛ فبات الضباط منقسمين وأيديهم على الزناد. وفي هذا السياق، وقع الانقلاب التاسع في 23 شباط/ فبراير 1966. ونتج من ذلك موجة تسريحات وتطهيرات جديدة في الجيش، تضاف إلى التسريحات التراكمية السابقة، لكنه أنشأ كتلًا جديدة متصارعة، سرعان ما حاولت تصفية الحسابات بينها. وترك ذلك آثارًا خطيرة على بنية الكفاءة الداخلية للجيش السوري من حيث هو مؤسسة، كان من أبرز نتائجها الخطيرة هشاشة كفاءته الخارجية عشية وقوع الحرب، ومواجهة الهزيمة الكبرى.
يستمر مؤتمر "خمسون عامًا على حرب حزيران/ يونيو 1967: مسارات الحرب وتداعياتها"، إلى غاية يوم الاثنين (22 أيار/ مايو)، ويضم برنامج اليوم الثاني (الأحد) ثلاث جلسات تتناول البيئة الإقليمية والدولية خلال حرب حزيران/ يونيو1967، والرواية الإسرائيلية للحرب، وأخيرا التفاعل مع نتائج الحرب وتداعياتها عربيًا. وفي اليوم الأخير، يفتح المؤتمر، بعد جلسة عن تداعيات الحرب فلسطينيًا، المجال لشهادات وقراءات لحرب 1967 ومجرياتها ومساراتها.