طلال سلمان : الإعلام المكتوب يعيش أزمة وجود
طلال سلمان
21-05-2017 02:49 AM
حسناً، لنُسلم أن الإعلام في مهب الأزمات، وهذا صحيح، لكن الأمر يتعلق اساساً بهذه الازمات، وهي خليط من السياسة والاجتماع والاقتصاد، ومعها وربما تكون أهمها وسائل التواصل الاجتماعي.. لكن السياسة تبقى هي الاساس ومصدر الازمة، فكيف تصنع اعلاماً إن لم تكن في البلاد حياة سياسية؟!
أيها الاصدقاء،
استبقت التحية لكم، وللجمهور لقسوة ما نعاني نحن الاعلاميين من اتهامات ظالمة ومن افتراءات وأخطاء وخطايا يرتكبها بعض المحسوبين على الإعلام والأحرى على من جعلهم من أهل الإعلام ليخدموه على حساب شرف مهنتهم ـ الرسالة.
وبعد التحية نباشر الكلام الصريح:
في بلاد يحتكر السياسة فيها عشرة رجال، على الاكثر، ومعهم امرأتان او ثلاث نساء.. لا احزاب عقائدية او سياسية فيها، ولا نقابات تمثل الفئة التي تكاد تنقرض، وهي العمال، أي الشغيلة كما كنا نقول ايام كان الشغل له قيمة معنوية ومادية.
وفي بلاد يحتكر الاقتصاد فيها، مجموعة من المصارف ورجال الاعمال، أصلاء او طارئين، برعاية، وأحياناً بالشراكة مع الطبقة السياسية الحاكمة، تحت مظلة الدولة، وغالباً فوقها.
وفي بلاد تلتفت دائماً إلى خارجها، عربياً، إلى حد ما، ودولياً بالأساس، فلا يتقرر فيها ما يجب أن يقرر الا بالاستشارة او الاستخارة والاستئناس بمن يملك حق القرار.
في هذه البلاد التي تعيش اسيرة مسلسل لا ينتهي من الازمات، المعيشية خصوصاً والاقتصادية عموماً، فضلاً عن ازمة الفراغ السياسي التي لا تنتهي بملء الشغور في المواقع القيادية، بل لعل هذه المواقع تتحمل القسط الاكبر من المسؤولية عن الشغور.. في أي من المواقع، وفي كل المواقع.
تشكيل الحكومة قد يستهلك عاماً، وربما أكثر، من حياة المواطن، حتى يتم تقسيم الجبنة على اصحاب الحظ في بعضها.
وملء الشغور في رئاسة الجمهورية قد يستغرق سنتين وأكثر، كما شهدنا مع التجربة الاخيرة، يسود خلالها الشلل في المؤسسات والدوائر جميعاً، وتذهب الدولة ـ باهتة الحضور أصلاً ـ في اجازة طويلة يصعب معها أن تستعيد دورها الذي يذهب به الفراغ مع الريح.
أيها الاصدقاء،
يقال في ما يقال أن الصحافة، او الإعلام عامة، هو السلطة الرابعة..
هذه تعتبر اليوم نكتة سمجة.. فأين السلطات الثلاث الأولى والثانية والثالثة..
وكيف تكون صحافة في بلاد لا حياة سياسية فيها يمدها بالحيوية الصراع بين الافكار والمصالح والطبقات؟
لننتقل من التعميم إلى التخصيص، ولسوف اتخذ من طرابلس، تحديداً، والشمال عامة، النموذج والدليل.
لن اتحدث عن “السفير” التي غابت وغاب معها دورها في خدمة “الذين لا صوت لهم”.. بل سأتحدث عن الاعلام عموماً، وان تركز حديثي بطبيعة الحال حول الصحافة… وسأتخذ من طرابلس، اساساً، والشمال عامة المثل في موقع هذه المنطقة الجميلة من الاعلام وفيه..
لقد نشرت “السفير” كما الصحف الاخرى، وشاركتها احيانا محطات الاذاعة والتلفزيون، تحقيقات سياسية واقتصادية واجتماعية عديدة، عن هذه القلعة الوطنية العريقة وذات الدور الذي لا ينسى في خدمة لبنان، وسائر القضايا العربية وبالتحديد قضية المقدسة فلسطين.
لكن كتاباتنا التي كادت تكون صرخات وجع قد ضاعت سدى، وإن تردد صداها في المقاهي والسهرات والمناسبات الاجتماعية: لا مسؤول اتصل مستفسراً وحقق فأكد او نفى ما نشر من معلومات عن اقتصاديات طرابلس والشمال، من معرضها الدولي الذي بلغ عمر مشروعه اكثر من نصف قرن ولما يكتمل، عن الصناعة، عن الخدمات العامة.. عن المرفأ الذي ظل معطلاً لدهر، عن سكة الحديد التي ابتلعها الزمن..الخ
صارت اخبار طرابلس امنية فحسب. اختفى الاجتماع فيها والاقتصاد وموقع الدولة منها او موقعها في اهتمامات الطبقة الحاكمة، وانحصر الحديث عن معارك التبانة وجبل محسن والقبضايات والخوات. تجمدت الحياة في طرابلس: اقفلت المصانع التي كانت فيها وانتقلت إلى بيروت او جهات أخرى قريبة (اهدن، البترون الخ)، وغادرت نخبها إلى المغتربات قريبها العربي او بعيدها الاجنبي، الا قلة منها وجدت من يحتضنها في بعض المؤسسات التي اقامها بعض رجال العمل العام وأهل السياسة أمثال الرئيس نجيب ميقاتي والوزير محمد الصفدي وآخرين.. وهم قلة.
وأذكر انني كنت اجيء إلى طرابلس اسبوعياً لزيارة اهلي الذين اقاموا فيها ثم في ضاحية البداوي لسنوات، فيستقبل زهر الليمون القادم إلى الفيحاء بعد سلسلة من مصانع الغزل والنسيج ومعمل السكر وورش لصناعات ومهن عديدة أخرى.
وكانت ساحة التل شعلة من النشاط والحيوية والحركة الدائبة، ومقاهيها تغص بالزبائن وفيهم نسبة كبيرة من المنية وعكار، أو من زغرتا والكورة وبشري، جاؤوا للتبضع.. او للترفيه، فإضافة الى دور السينما كان في طرابلس مسرح لعله الاول الذي أنشئ في لبنان منذ الثلاثينات..
أيها الاصدقاء،
لعلني خرجت عن الموضوع، لكنه الحنين إلى قلعة النضال الوطني والقومي، المقاتلة في فلسطين، ام الفقير، كما كان يسميها اهل جوارها كما من وفد اليها موظفاً للخدمة فيها..
وأعود إلى الإعلام متحاشياً لغة الرثاء، لأقول: ان الإعلام، وأعني المكتوب اساسا، وإن كانت الازمة تعني المرئي والمسموع ايضاً.. هذا الإعلام يعيش أزمة وجود.
لم تعد صحافة لبنان صحافة العرب،
ولا إذاعاتنا التي بالكاد تُسمع محلياً، هي إذاعات العرب،
ولا التلفزيون هو تلفزيون العرب، اللهم اذا استثنينا بعض برامج المنوعات المشوقة كالتي تعرفون، والتي يقبع جمهورها ـ اساسا ـ في الجزيرة والخليج..
هذا قبل أن نتحدث عن الخطر المدمر التي جاءت به أجهزة التواصل الاجتماعي التي توضع في مكتب كل منا، اضافة إلى الهاتف الخلوي، دائرة معارف متكاملة لا حدود لخزينها الذي لا ينضب والذي يشمل الاهتمامات والمعلومات كافة، ويساعدك لمعرفة الطريق الى بيتك او مكتبك، ولو في اقصى الارض.
أيها الأخوة،
إذا شئنا الصراحة فلا بد من القول انه لا صحافة بلا سياسة.
إن لبنان الذي كان درة الشرق، وعاصمته النوارة التي كانت المركز الاول للإعلام العربي، قد عاد إلى حجمه الجغرافي المتواضع حتى لو كان ابناؤه يملأون العالم فكراً ونشاطاً في مجالات الاعمال والتعليم والهندسة والمقاولات الخ..
إن لبنان هذا قد عاد إلى حجمه الجغرافي بعدما ضرب الانقسام والتقسيم والتخلف والدكتاتورية حواضر التمدن والتقدم فيه دمشق وبغداد والقاهرة وصولاً إلى صنعاء التي لا بد منها وإن طال السفر.
آسف إن كان لكلمتي رنين النعي للإعلام المكتوب اساساً، والإعلام الذي نعرف عموماً، إلا أنني لم أجد سبباً للمجاملة او للتخفيف من فداحة الازمة التي نعيش.
ومع أن “السفير” لا تمثل الإعلام كله، لكن غيابها كان مؤشراً على طبيعة الصعوبات والأزمات الحادة التي تعيشها مؤسسات الإعلام كافة، مرئية ومسموعة فضلاً عن المكتوبة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلمة القيت في جامعة العزم ـ طرابلس، خلال ندوة “الإعلام في مهب الأزمات”، التي نظمتها كلية الاعلام في الجامعة.