للمدن مزاجات خاصة،
هناك مدن تتبسط معك، تفتح أبوابها وتسلمك المفاتيح، تبوح لك باسرارها، شيفرة معادلاتها، تفاصيلها المبثوثة بين أزقتها ومقاهيها وساحاتها ووجوه القاطنين!!
هناك مدن جميلة كذكرى،
وهناك مدن صعبة المراس تشعرك بانقباض: تزعج الروح وترهق النفس.. فتتمنى مغادرتها!!
وهناك مدن تمر بك بلا لون ولا طعم ولا رائحة، مهما سعيت في مناكبها متأملا في الوجوه والمباني، سيراً باتجاه تفاهمات بينها وبينك، تبحث في مفاصلها عن ذكرى صغيرة تمكنك من الإمساك بالأشياء المنفلتة من الزمن ، فتأبى رغم حرصك وجهدك، هناك مدن خواء!!
لا تتصالح مع كل المدن والامكنة،
في عمق الأمكنة، تدرك أهمية التفاصيل التي تضفي بهجة من نوع آخر على المدن، بهجة الدهشة وغواية المعرفة، تتوجس من مدن لا تستقبل بدفء، لا تتنبه إلى وجوه زوارها ، تغرقهم في زحام الوقت وتخطفهم من انفسهم، تحبسهم فيها سجناً كبيراً وتحرمهم ولع الاكتشاف!!
تأخذك أيامك، بعيداً الى سماوات لم تحلم بها، ودروب لم تتخيل أن تطأها... الإنسان طائر حقيقي يحلق حتى آخر الدنيا،صباحاً في أرض وبين أحبة، ثم يهطل عليه ليل تحت سماء غريبة يحتسي "شايه" وحيداً. الإنسان طائر صغير يحلق في الفضاءات ويسافر في الدنيا، لكنه أبداً لا يقاوم حنين العش!!
تغرق رحلتك القصيرة في ثلاثية مربكة، أيام تراكم ذاكرة للاتي من الايام، والزمن زمن الهواتف الذكية تقوم مقام الذاكرة، تحفظ الصور، وأرقام الأصدقاء، تذكر بتواريخ مناسبات الأحبة ، توقظ صباحاً وتذكر بالمواعيد ، ماذا تفعل الذاكرة التي في القلب والعقل، وقد حاصرها المنع فهامت بعيدا عن "منصات" التواصل الاجتماعي؟
ثلاثية صنعتها حكاوي "الطائرات" التي ارتحلت بك سبعا في ايامك الاحدى عشرة ! "كهل أنيق" يفتح لك كتاب الحكمة، والحكمة تحتاج زمنا لتنضج ... الحكمة نار تلتهم نزق القلب ودهشة الروح، تهبنا عقلاً بارداً ، يفتح لك "روح الصين العظيمة" ويروي، ويقرأ من عينيك تفاعلاتك ، وقبل ان يهم بالمغادرة يحذرك من "خداع المرايا والاحجام" ويرمي لك "السمكة الكبيرة": صديقي، منذ 20 سنة كان افضل وقت لزراعة شجرة، ثاني أفضل وقت للزراعة هو الآن!! ويبقى صوته، تماما كــ "الاصوات الصغيرة التي في داخلك"، عالقاً.
ثلاثية أربكتها مدن خواء، مدن لم تخلق لتزورها وحيدا، لتتجول وتنام وتقوم فيها، وتتناول طعامك الصباحي وحيداً، مدن تهزمك أسماؤها مسبقاً، مدن لا تصغي، مدن يطحنها الوقت، ويحكمها الصمت .. فيغدو الانسان ترسا في ماكينة، يعبر الشوارع ولا يقرأ الطرقات ولا تعنيه "عطور" المدن.
ثلاثية احكمها باب لا يتعرّف إلى أحد سواك، وصورتك تنعكس على الزجاج، فـ "يتقطّرُ ما تبقّى" من جدارية نوافذ بعيدة يغادرها الضوء وتغرقها العتمة كلما دقت الساعة العاشرة، مشهداً سينمائياً يفتح ابواب الحنين!! والحنين داء المصابون به أوفياء لذاكرتهم، ذاكرتهم زاهية وذات ضجيج ، شخوصها جميلون وألوانها طازجة كرغيف خبز ساخن من "الوطن"، ودمعتهم قريبة!
تعيد قراءة الكلام، وتسأل ماذا تريد ان تقول؟ وكل اولئك الذين هم مثلك؟ لا جواب ... ترشدهم إلى العنوان .. نعم، دفق "فوضوي" من مدن"الخواء"، فاعذروني !!