هواجس كثيرة تشغل بال الأردنيين وتغرقهم في نقاشات وجدل وصراع يومي على وسائل التواصل الاجتماعي، وما أن يغلق ملف قضية حتى يشتعل آخر، وهكذا يظل الناس مشدودين تؤرقهم قضايا كبيرة وأحيانا قضايا ربما تبدو لا تستحق الالتفات لها.
الأسبوع الماضي طغت التهديدات السورية للأردن على ما عداها أقليمياً، وأكثر ما يثير في كلام الرئيس بشار الأسد وحتى وزير خارجيته وليد المعلم أنهم يشربون "حليب السباع" في الرد على الأردن والتطاول عليه وكأنه "حيط واطي"، ولا يتجاسرون في الكلام حين تقصفهم صواريخ توما هوك الأميركية، أو تنتهك سيادتهم الطائرات الإسرائيلية وتضرب أينما يحلو لها.
فقط الأردن هو العدو للقيادة السورية التي يحلو لها توجيه الاتهامات له في كل مناسبة، مع أن الأردن يعلن ليلاً ونهاراً أنه مع حل سلمي للأزمة السورية، ويؤكد أنه مع وحدة التراب السوري، ويعمل بالعلن ضد التنظيمات الإرهابية، وكل ما يطالب به لخصه وزير الخارجية أيمن الصفدي بالقول "لا نريد منظمات إرهابية ولا ميليشات مذهبية على حدودنا".
قبيل القمة الأميركية العربية الإسلامية في السعودية تزداد التكنهات بأن الملف السوري سيكون على رأس جدول الأعمال، وتتزايد القناعة عند بعض الأطراف إلى الحاجة لتدخل عملياتي عسكري في الأراضي السورية، وهو أمر يبعث على القلق بالشارع الأردني من الضغط على حكومتنا لتكون شريكاً في تدخل عسكري بري يتجاوز حدوده.
حتى الآن الموقف الأردني واضح، وقد عبر عنه الملك عبدالله من قبل بالقول بأنه لا حاجة لهذا التدخل مع حق الأردن بعمليات نوعيه تحفظ أمنه وتردع الإرهابيين عن أراضيه.
لا يمكن أن ينظر إلى الملف السوري من توجهات الرئيس الأميركي ترامب وحده، ولا يمكن القياس على عملية ضرب قاعدة الشعيرات الجوية بأنها النهج الجديد للقيادة الأميركية في التعامل مع سورية، فلهذه العملية حسابات داخلية أكثر منها رؤية وموقفا، وكذلك فإن الإدارة الأميركية لا تستطيع أن تتجاهل روسيا لتفرض سيناريو عسكريا بريا في أكثر من جبهة ومنها الأراضي الأردنية دون اتفاق وتوافق معها، وهذا خيار مستبعداً جداً.
لا أتوقع تصعيداً على الجبهة الأردنية السورية أكثر مما حدث، والسيناريو الذي لا يمانعه الأردن هو فرض منطقة آمنة وعازلة على حدوده.
ومن المشاكل الإقليمية إلى الشأن الداخلي؛ أدمى قلوب الناس ما شهدته مدينة الصريح، فطوال أيام عاشت رعباً، وسال دم، وحُرقت أملاك، وتوارت دولة سيادة القانون وحل بدلاً منها التنمر على الدولة، ولغة الانتقام، واللجوء للعنف.
لا نحتاج أن نناقش الأسباب التي أدت لهذا الصراع العشائري الذي يذكرنا بحرب داحس والغبراء، لا نحتاج أن نتوقف لنسأل هل صحيح أن الأمر متعلق بخلاف على موقف سيارة، فأيا كان السبب جوهرياً أو تافهاً فإن ما حدث يكشف بأن هناك من يعيش بيننا يستسهل عملية القتل، ولا يرى الدولة بعينيه، فهو يفصل القانون على مقاسه وعلى هواه، والآخرون في المقابل لا يحتكمون للقانون والدولة للاقتصاص لهم، بل يقررون انتزاع الحق بيدهم، والثأر وكأننا في عهد ما قبل تأسيس الدولة.
ما حدث في الصريح تكرر من قبل كثيراً وسيتكرر في قادم الأيام، وعلينا أن نسأل لماذا لا يحدث هذا الأمر في دول عربية كثيرة عرفت التحضر والمدنية بعدنا بعقود، وشعوبها أقل تعليماً من شعبنا بكثير ونظامنا السياسي أكثر استقراراً من انظمتهم؟
نعم أتساءل لماذا لا نسمع عن صراع عشائري دموي في بلدان ما تزال القبيلة قوية ومتماسكة وهناك العديد من الأمثلة على ذلك... هل المشكلة في حكوماتنا التي قبلت ورضيت لعقود بالاعتداء على حكم القانون واستباحته، ووقفت تتفرج وكأن الأمر لا يعنيها، وساهمت بشكل أو بآخر بتكريس حكم العشيرة ومنطقها حتى ولو كان ذلك على حساب هيبة الدولة؟!
أحداث الصريح ليست حالة منقطعة عن تواتر المشكلات التي تؤشر إلى فشل أو ضعف حكومي في التصدي للمشكلات المجتمعية المتفاقمة مثل تكرار أحداث العنف في الجامعات، والعنف في الملاعب وتصاعد التحريض الإقليمي والجهوي.
ربما نقول إن المشكلات التي نشهدها من الاقتتال العشائري أو العنف في الجامعات أو الاشتباك في الملاعب انعكاس لخيبة الأمل وانسداد الأفق في مواجهة التحديات الاقتصادية والإصلاح، وهذا أمر صحيح وأكيد في ظل أزمات معقدة، لكن الأمر الأكيد أيضاً أن التهاون في تطبيق القانون وتعطيله أحياناً هو الذي يدفع لسيادة منطق "دق خشوم" في الدولة الواحدة.
الغد