تم تأسيس الشركة كمنظمة غير ربحية مملوكة من قبل إحدى المؤسسات الريادية في الوطن، وممولة من قبل إحدى المنظمات الدولية غير الحكومية NGO. كنا خمسين موظفا وموظفة، بدأنا مع أول كرسي وضع في الشركة. كان كل من يزور الشركة يشعر بسكينة يبعثها الأمل في وجوه الموظفين، ويزجيها تواضعهم. ثنائية الأمل والتواضع؛ غرسها في قلوب الموظفين، ذلك المدير الشاب.
بدأت الشركة عملها بوتيرة عالية، كان يعلو نجمه ويسطع اسمه كلما علت شمس الشركة في سماء المنافسة. أما عن نظرائه من مدراء الشركات المنافسة، فقد كانوا هم أيضا على قدر عال من المسؤولية. بيد أنه كان أدقهم نظرا، وأصفاهم فكرا، وأكثرهم تواضعا، وأجرؤهم في اتخاذ القرار. حتى ان جرأته أضحت عبئا أثقل كاهل أعضاء مجلس الإدارة، وزرعت فيهم الخوف عوضا عن الأمل.
بعد مشادات لم تخل من العصبية من كلا الطرفين، بينه وبين مجلس الإدارة في الاجتماع الشهري، إثر مطالباته بزيادة رواتب مستحقة للموظفين بعد نجاح منقطع النظير في ذلك العام؛ وصل الرد بالفاكس! لا أذكر اليوم تحديدا، لكني أذكر الساعه. ففي تمام الساعة الواحدة ظهرا من أحد أيام العام ٢٠٠٢، وصلت إقالة ذلك الإنسان! عن طريق الفاكس! حالة غضب عمت المكان، اتصلت به وأبلغته بضرورة العودة للشركة دون إبلاغه بما جرى. وتم إبلاغ الجميع بضرورة العودة إلى الشركة لعقد اجتماع طارئ. غادر هو بفاكس الإقالة، وبقينا نحن. قررنا ونحن في كامل قوانا العقلية أن نتقدم باستقالة جماعية، تم إرسال الإستقالة للمجلس موقعة من قبل واحد وأربعين موظفا عن طريق الفاكس أيضا. تلا الاستقالة إضراب عن العمل في اليوم التالي. أجرى محامو الشركة اتصالا بنائب المدير لإبلاغه بضرورة مباشرة الموظفين أعمالهم، لأن إضرابنا ذلك وصف بغير القانوني!
اجتماعات تلتها اتصالات بين الموظفين "العُصاة" كما كان يطلق علينا، حتى تم الإتفاق على أن يلزم كل مكتبه في اليوم التالي مع استمرار الإضراب عن العمل.
في صبيحة اليوم التالي، توجهنا إلى الشركة وإذا بمجموعه من العملاء والعميلات بقيادة شيخة العميلات "أم ابراهيم" يرتدون قمصانا قطنية طبعت عليها صورة المدير المُقال احتجاجا على إقالته! كانوا يصدحون بسمفونية ال "هو" ببدائيتها المطلقة وبرائتها المفرطة. "هو" اللي حقق آمالنا!
خطبة رئيس مجلس الإدارة، وكان من أصحاب المعالي السابقين؛ كانت بمثابة قدر لا فكاك منه. "أنتم أبناء هذه المؤسسة، ووجب عليكم تقديم الولاء لها لا لفرد فيها". حسبي به ليلى مراد وهي تشدو بكلام جميل، وكمان معقول، ما أقدرش أقول حاجة عنه! ولم تكن تخلو تلك الخطبة أيضا من متلازمات شعبنا الشهيرة " بٓسْ و ماهو و بعدين"!
بَسْ معاليك! ماذا لو كان ذلك الفرد هو مِن بنى تلك المؤسسة؟ ما هو! الذي وضعها في مقدمة المؤسسات المنافسة، وبسببه هو حققت منذ البداية أعلى نسبة سداد محليا وإقليميا. بعدين! هو من حارب لأجل إخضاع جميع الموظفين لدورات تدريبية في هذا القطاع وصنع لهم ثقة ووزنا فيه. هو من تنازل عن بعض من حقوقه لأجل إقرار زيادات رواتب الموظفين. تلك الزيادات التي عارضتها أنت ومجلسك! هو من كان يقابل العملاء، وإن سألهم أحدهم: أنت عمي السكرتير؟ بتقدر تساعدني؟ ليرد بكل تواضع: خدامك يا عمي، تفضل! هو من سطع نجمه في هذا القطاع بلمح البصر ليقترن اسم الشركة باسمه في كافة المحافل. وماهو! كمان كان سندا لكل فرد وعميل في تلك المؤسسة حتى على الصعيدين المادي والشخصي! وبعدين! معاليك أنت قاضينا وأنت خصمنا، فقل لي بالله عليك أي عدل نرجوا منك؟
كان برد التكييف قارسا في الغرفة، ولا زالت ليلى مراد تشدو سمفونية مروعة، عزفت على أوتار بؤس الحالمين، وأنارت لهم طريق الرحيل. أما العصاة فقد كان كل منهم يعلو ويطفو بين الواقع والخيال. وقد كان فلان يتمتم حتى ينسى البرد وأخرى أغمضت عينيها وكأنما تحث الرقاد إليهما. وأما السائق سلمان فقد أخرج علبة السجائر الخاصة به، استل سيجارة ووضع العلبة جانبا. حدق بالسيجارة والشرر يتطاير من عينيه، وبدا جليا بأن ريبة تملكته فمنعته عن إشعالها. لا أعلم كيف امتدت يدي إلى علبة السجائر تلك، خطفت سيجارة منها، أومأت له بأن يعطيني الولاعة، وأشعلت السيجارة ونفثت منها غليل قلبي!
كان معاليه في حالة ذهول، واشتدت تلك الحالة عندما مرت علبة السجائر على العصاة ليتحول برد الغرفة إلى نار ودخان!
لم نتبادل الحديث؛ إننا لم نتبادل النظرات حتى، بيد أن تلك السجائر التي أشعلت في منظومة متتالية في حضرة معاليه وهو يتلو علينا خطبته البكماء، كانت بمثابة قصاص من أناه بغطرستها وجبروتها!
"الشباب متأزمين كتير وبدخنوا!" هكذا أنهى معاليه خطبته وانصرف!
في اليوم التالي؛ محامية الشركة وإحدى شركات معاليه الخاصة، وكانت صديقة لي، قالت لي بدبلوماسية مفرطة ورثتها عن والدها السفير في إحدى الدول الأوروبية: "لارا؛ معاليه وافق على الإستقالات وطلب ننهي كل اشي بسرعة بس كان مصر إنه إنت أول وحدة تخلص وتطلع برة الشركة قبل ما ييجي لانه من ضمن كل الي صار اعتبر الي صار منك انت تحديدا إهانة شخصية اله"! قالتها وانصرفت، حيث بدأت أنا ومندوبة شركة التدقيق بتسليم العهدة.
في تلك الظلمة، خلا ذهني إلا من صور تتطاير لأجنحة من السعادة كانت تظللنا. أما تلك الغرفة بطاولتها الضخمة والتي كانت مسرح أحلامنا، فكنت أسمع صدى ضجيجها في أعماقي.
بعد عدة لقاءات لمجموعة العصاة، وبعد أن مضى كل في درب لا يخلو من شوائب؛ انقطعت أخبارهم عني إلا عن أربعة، فقد شهدت زفاف إحدى الفتيات، وقدمت واجب العزاء في أخرى قضت إثر نوبة قلبية، وباركت لواحد وزوجته بمولودتهما الثانية، وبقيت على اطلاع بأخبار واحد مِن المدراء كان قد رشحني للعمل في سلسة لشركة عالمية كان يمتلك بعضا من أراضيها، إلى أن غادرت البلد لتنقطع أخباره أيضا! أما المدير المقال، فقد قرأت في إحدى الصحف العربية بعد مدة بأنه يعتلي منصبا رفيعًا جدا؛ ولكن في دولة أخرى!
وما كانت المقولة الشهيرة لمعاليه وأعضاء مجلس الإدارة الموقر من أصحاب المعالي والسعادة بأن الشباب هم الأمل إلا أساطير أولين، والأحلام بمستقبل جيل واعد ما كانت سوى هوس وجنون.
ما أسفت يوما على تلك الاستقالة ولا على تلك السيجارة، فلم يكن الأمر يتعلق بفرد لشخصه، بل هي يد له حملنا جميلها على عاتقنا. ولكني رأيت في تلك اللحظة عالما مجهولا وأحلاما غادرت وطنها! فقدنا وظائفنا، واستمرت الحياة، فما وقفت الحياة يوما عند أحد! لكننا اكتسبنا تجربة أعمق انفراجا من الأفق. وأدركت أنا شخصيا حينها فقط؛ ان المرء قد يستنفذ الكثير من خياراته ومحاولاته حتى يكتشف المعنى الحقيقي للحياة. وما الحياة الا خفقات قلب شابّ، فإن هدأت، هدأ كل ما فيه وشابٓ. فخورة كل الفخر بأني كنت جزءا من ذلك العصيان.
#أضغاث_ذكريات
ملاحظة: أبوي؛ اذا كنت تقرأ، غض النظر عن فقرة السيجارة، فقد كانت سورة غضب وسيجارة انتقام!