حظي الإستفتاء الذي أجري في الجمهورية التركية مؤخراً حول التعديلات الدستورية الخاصة بتحول النظام السياسي التركي من نظام برلماني إلى نظام رئاسي شبيه بالنظام الرئاسي في الولايات المتحدة الأميركية، مع ما يسلتزم ذلك من منح الرئيس "رجب طيب أردوغان" صلاحيات تنفيذية وإدارية وقضائية، بإهتمام عالمي واسع نظراً للدور المحوري لتركيا، كقوة إقليمية، في العالم كونها تربط بين الشرق والغرب من النواحي كافة الجغرافية، السياسية، والإقتصادية، والإجتماعية، وحتى النفسية، إضافة إلى أهميتها الجيو سياسية والجيو إستراتيجية للدول الأكثر تأثيراً في العالم، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، وبعض الدول الأوروبية كألمانيا التي تستضيف ما يزيد عن خمسة ملايين تركي فوق أراضيها. ناهيك عن الأهمية التاريخية للدولة التركية التي سيطرت إمبراطوريتها على معظم دول الشرق، وأجزاء كبيرة من الغرب، خصوصاً في منطقة البلقان ودول شرق أوروبا.
وسبق ذلك الإستفتاء "محاولة إنقلابية فاشلة" قامت بها جماعة المعارض التركي فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة الأميركية والذي كان صديقاً حميماً للرئيس التركي رجب طيب أردوغان لسنوات، وما نشأ عن تلك المحاولة الفاشلة من إجراءات قامت بها الحكومة التركية ضد من خطط ونفذ تلك المحاولة الإنقلابية من عسكريين ومدنيين شملت قضاة وأكاديميين وطلبة، إستدعت إنتقاد معظم الدول الغربية لإنتهاكها لحقوق الإنسان وفقاً لتلك الدول التي قامت لاحقاً بمنع أية مظاهر أو مظاهرات لدعم الرئيس التركي فوق أراضيها، منها على سبيل المثال ألمانيا، والنمسا، وسويسرا.
وجاءت نتائج الإستفتاء كما كان متوقعاً لصالح الرئيس التركي لكن بأغلبية هشة أظهرت حالة الإنقسام التي يعيشها المجتمع التركي بخصوص تلك التعديلات والخشية من عدم نجاح تجربة تغيير نظام الحكم. وتابعت أثناء الإستفتاء بعض تقارير وسائل الإعلام العالمية، خاصة في الولايات المتحدة وألمانيا واليونان، التي أفادت أن معظم الدعم الذي حظي به الرئيس التركي جاء من القسم الآسيوي لتركيا الذي تقطنه عامة الناس ذات التوجهات الإسلامية، في حين أن الأصوات المعارضة جاءت من القسم الأوروبي الذي تقطنه النخب الأكاديمية والفكرية ذات النزعة الغربية العلمانية. وذلك مرده حسب إعتقادي المتواضع، إضافة إلى أسباب أخرى، إلى حجم الشعبية التي يتمتع بها الرئيس التركي لدى عامة الشعب التركي وطبقاته الأكثر فقراً بسبب حديثه بلغة يفهمونها والتي ترى فيه ملاذاً آمناً لإستقرارها الإقتصادي والسياسي في ظل التطورات المتلاحقة التي تعصف بالإقليم، خصوصاً الجارتين الجنوبيتين، وخشية عامة الناس من تدهور الأوضاع داخل الدولة التركية بسبب الأعمال التي يقوم بها "الكيان الموازي" كما يطلق عليه في تركيا من جهة، وكذلك بسبب الأعمال العسكرية التي تقوم بها القوى الكردية اليسارية الإنفصالية التي تحظى بدعم الأرمن داخل تركيا من جهة أخرى.
وأياً كان الأمر فإن نجاح التحول السياسي في تركيا مرهون بالتطبيق على أرض الواقع وإنعكاسات ذلك على النواحي كافة سواء كانت سياسية، وإقتصادية، وإجتماعية، وإقليمية، ودولية. ولعل بعض من صوت لصالح التعديلات لا يزال لديه الخشية من فشل تلك التجربة ما قد ينعكس سلباً على مجمل الحالة التركية، وهو ما أبداه لي إثنان من الأكاديميين الأتراك عند حديثي الجانبي معهم بعد مشاركتي في مؤتمر قانوني دولي حول التحكيم قائلين أنهم ينتظرون رؤية كيف سيتم ترجمة تلك التعديلات الدستورية في الواقع العملي، مع تأكيدهم أن التحول من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي قد يكون مفيداً لحماية وحدة الدولة التركية وإستقرارها في مواجهة خصوم الداخل والخارج، وحمايتها كذلك من تنازع الصلاحيات بين رئيس الحكومة من جهة، ورئيس الدولة من جهة أخرى. إضافة إلى تأكيدهم أن إستمرار الرئيس لاحقاً مرهون بقدرته على تحقيق النتائج المرجوة، خصوصاً أن النظام الإنتخابي التركي يشكل ضمانة لإستمرار الرئيس من عدمه كون أن الشعب هو الذي يختار رئيس الجمهورية بواسطة الإقتراع المباشر.
ومن وجهة نظري المتواضعة، فإن نجاح ذلك التحول مرهون أيضاً بمدى نجاح النظام السياسي التركي في إعمال مبدأ "العدالة الإنتقالية" مع خصومه السياسيين في الداخل والخارج نظراً لحساسية الموقف الرسمي التركي بشأن تلك المسألة، خصوصاً في ظل تزايد الإنتقادات الغربية للإجراءات التي إتخذتها الحكومة التركية بعد محاولة الإنقلاب الفاشلة ضد جماعة المعارض غولن، كما أسلفنا، وعرض الرئيس التركي تفعيل عقوبة الإعدام بحق من خطط ونفذ الإنقلاب بواسطة إستفتاء شعبي ينظم لهذا الغرض.
أخيراً، لا بد من الإشارة إلى أن تطبيق تلك التعديلات سوف يبدأ خلال العام 2019 ما يسمح بتركيز السلطات بيد الرئيس التركي الذي لا يجوز إنتخابه، بموجب تلك التعديلات، لأكثر من مرتين. وعليه فإن الحكم حول نجاح او فشل التحول السياسي في تركيا يعد سابقاً لأوانه، على الرغم من أن الإعلام الغربي يشير منذ الآن إلى شكل النظام السياسي التركي القادم المعتمد على سلطة الرجل الواحد ما يغلق الباب منذ الآن أمام أية إمكانية لإنضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروبي مستقبلاً.