رجل البريد والتمرجي وزيد حمزة
د.مهند مبيضين
11-05-2017 12:46 AM
زمان، كان مكتب البريد أهم مرافق الدولة في القرية، هذا قبل زمن الخصخصة التي الغته، كان رجل البريد الذي أذكرة سلام المعايطة، عريض الكتفين مُحمر الوجه، طيب ومبتسم، وكان سلام عامل المقسم بنفس الوقت، ويعرف كل أسرار القرية خاصة، حين بدأت الهواتف أوائل الثمانينات، وكثير من رجال البريد حققوا ثروات واغتنموا فرصاً بفعل معرفتهم بالأسرار والصفقات. لكن الخدمة الآلية التي دخلت أواخر الثمانينيات ألغت حضوره.
وتاريخياً كان صاحب البريد أهم رجال الدول، ولهيرودوتس عمدة المؤرخين، وصف لبريد ملك الفرس في حربه على اليونان ومبعوثيه يقول فيه: «الذين لم يكن يوقفهم مطر أو ثلج أو حر أو ظلام الليل عن القيام بدوراتهم البريدية» ولفظة البريد يقال أنها أعجمية فارسية أصلها (بريده دم) ومعناها محذوف الذنب وذلك لأن الفُرس كانوا يقصون ذنب بغل البريد؛ ليمتاز بذلك عن غيره من الدواب. وبلغ البريد عند المسلمين شأناً كبيراً زمن معاوية ثم نظم أيام عبدالملك بن مروان، لكنه أخذ اهمية كبرى زمن أبي جعفر المنصور.
قال عبدالملك بن مروان مخاطباً، حاجبه المعروف ابن الدغيدية: وليتك ما حضر بابي إلا أربعة، المؤذن فإنه داعي الله تعالى فلا حجاب عليه، وطارق الليل فشر ما أتى به، ولو وجد خيراً لنام، والبريد، فمتى جاء من ليل أو نهار فلا تحجبه، فربما أفسد عليّ القوم سنة حبسهم البريد ساعة، والطعام إذا أدرك، فافتح الباب، وارفع الحجاب.»
وقال أبي جعفر المنصور:»ما كان أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على بابي أعف منهم، فقيل له: يا أمير المؤمنين من هم ؟ قال: قاض لا تأخذه في الله لومة لائم، وصاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، وصاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية، فإني عن ظلمها عني، ثمّ عض على اصبعه السبابة ثلاث مرات، يقول في كل مرة آه.. آه.. فقيل له: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب البريد يكتب إليّ بخبر هؤلاء على الصحة».
في بلدنا هناك ذاكرة عند عمال المقاسم اكتشفتها خاصة في حقبة الخمسينيات، وفي محاربة الدولة للشيوعية، يذكر احدهم كيف كانت البرقيات تأتيه ويحجبها، وكان شيوعياً، ويتحدث كيف اكتشف، وقال:» كانت الدنيا مليانه والشيوعية منتشرة وكتب فؤاد نصار تملأ القرية...» كانت الثنية ملقبة «موسكو الثانية» لنشاد مدير مدرستها آنذاك يوسف كرابيلة في نشر الشيوعية.
ولحق بالأهمية بعد صاحب البريد رجل الطبابة، أو العيادة،وأول تمرجي بقريتنا المرحوم محمود هارون المبيضين أبو فتحي،ولا أظن أنه درس أو تعلم بمعهد متخصص، لكنه كان يقوم بالواجب، ثم جاء الممرض عدنان الهلسة، رجل ضخم عريض الكتفين، وكان التمرجي شخصية مركزية في القرية، كان مقر العيادة عقدة أبو ممدوح، ولاحقاً استُئجرت تسوية مقابل بيتنا في منزل عبدالرحمن بن سليمان، ويزورها الطبيب مرة بالاسبوع ومن ثم مرتين فثلاثة، وأذكر أن الدكتور آنذاك اسمه جمعة الرواشدة ومن قرية عي، تقاعد قبل عامين، وجاء بعده الطبيب شبلي المدانات،ثمّ تطورت في قريتنا العيادة المسـتأجرة من العقدة التسوية غير المناسبة بتهويتها، إلى مركزصحي أولي ثم إلى شامل.
افتتح المركزالصحي إبان وزارة الدكتور زيد حمزة للصحة، في عام 1986م،في حكومة زيد الرفاعي الرابعة.وأذكر أننا عطلنا، كان مجيء الوزير العامل بالحكومة حدثا مهماً لطلبة القرية، ولاحقاً صار من العائلة وزير له فضل كبير على تعليم الشباب وادخالهم القضاء وهو المرحوم يوسف المبيضين. وآنذاك كان زيد حمزة يطالب بعودة الطب لخدمة المجتمع والتوسع بالمراكر الطبية العلاجية ولاحقا هاجم فكرة المؤسسة الطبية العلاجية باعتبارها «تفكك النظام الصحي وتعزل المستشفيات الحكومية عن النظام الصحي المتكامل الذي يبدأ من المركز الصحي الأول وينتهي به».
من أكثر الأمراض بالقرية التي ازهقت الأرواح كانت الحصبة، يحدثنا كبار السن انهم كانوا « يدملوا» الطفل، أي يغطوه بالأغطية الكثيرة الثقيلة، على عكس المطلوب وهو تخفيف الأغطية، فيموت من الحر، انا ضربتني الحصبة كغيري من أبناء الجيل، لكني نفذت، حدثني والدي رحمه الله، أن عائلة العمارات من العضايلة في زحوم دفنوا في يوم واحد أكثر من عشرين طفلا في زحوم بسبب الحصبة.
زمان كانت الحياة مرة، وفيها كثير من الحزن، وهي صعبة، ولكن نحن بحاجة للذاكرة وللتذكر، وما يزال سلام رجل البريد محفورا، في الذاكرة، إلى جانب أبو سميح البستنجي صاحب الدكان.
Mohannad974@yahoo.com
الدستور