بحثاً عن الذات الإبداعية الخلاقة؟
واسيني الاعرج
10-05-2017 08:18 PM
يجب أن نتفق على توصيف مفهوم التجربة الروائية حتى لا تتحول إلى حالة مرضية لا ترى العالم إلا من خلال عين الذات الصغيرة التي كثيراً ما تتضخم وتصبح طاغية وقاتلة أيضاً، فتفسد الكتابة ومتعة القراءة معاً. القصد بالذات، ليس الذات المريضة المتكومة على نفسها في نرجسية مرضية، ولكن كحالة إنسانية حقيقية تخترقها الآلام والحياة الصعبة. وحدها التجربة والقبول بالخسارات أيضاً، من يعطي مصداقية للكتابة الإبداعية تحديداً.
الذاتية التي أعني تلك التي ترى في الحياة جهداً مشتركاً، تلك التي تبحث عن العدالة وسعادة الإنسان وتتساوى البشرية في هذا كله. أينما وليّنا وجوهنا فثمة ظلم وفقر وسعادات صغيرة مسروقة. لهذا الذات ليست ذاتاً إلا بمقدار اندراجها ضمن أفق إبداعي أوسع يأخذ هذه الذات في تواضعها إذ لا قيمة لها إلا بوجودها العام. قد لا تكون التجربة الطويلة والغنية جداً شرطاً مسبقاً إذ كثيراً ما أبدع شباب في مقتبل العمر نصوصاً مميزة، لكن القدرة على التوغل عميقاً في النصوص والقراءات يمكنها أن تعوّض القدرات بعض العمر وإدراك ما هو جوهري في الحياة لإدخاله في النص الروائي.
عندما كتب غسان كنفاني «عائد إلى حيفا» و«رجال في الشمس»، لم يكن عمره متقدماً وإن كانت التجربة السياسية كبيرة وحاضرة. كان ممتلئاً بتجربة حياتية مرة تخترقها المنافي الصغيرة والكبيرة والقسوة السياسية. كان بين فلسطين والكويت ولبنان يحاول أن يمسحزن المهاجر والخوف والخيبات والمخيمات والهرب من الأقدار الصعبة التي كانت تفرض نفسها بقوة ويطرح الأسئلة الوجودية حول البشر والتاريخ: الأرض شأن صعب. من يغادرها ويتركها، كيفما كان الظرف، لا يطلب منها أن تعترف به لاحقاً. الأرض تنسى أيضاً. لا يمكن لأحد مهما كانت سطوته أن يفرض عليها الخيبات و يفرض عليها علاقات المنافي. التجربة رسخت في أعماق كنفاني هذا الجرح الذي يخترق كل كتاباته حتى تلك التي تبدو بوليسية أو عامة.
من خلال هذا السياق تخضع التجربة الذاتية وتجلياتها في الإبداع، لمجموعة من المحددات: 1- إلى أي مدى يصبح الإنشغال عاماً وإنسانياً من دون أن يخسر علاقته بميزاته وروائحه. كيف أنجز من ذاتيتي المتحركة باستمرار نصاً مؤهلاً للقراءة. 2- الخروج من نرجسية الأنا الكاسرة لإبداعية النص والدوران في سياق ذاتي يتكرر والبحث عن اللمسة التي تجعل من النص حالة من التمايز تتقاطع مع سيري وتبتعد عنه باستمرار. قتل الذاتية هو جزء من العملية الإبداعية. هناك ذاتيات بحجم ما يكتبه الروائي من روايات. لكل نص ذاتية مستقلة تسير وفق موضوعات وفنيات النص المنتج. عندما يصبح النص منتجاً في السوق والقراءة، تحترق الذات التي أنتجته وتحل محلها ذات أخرى مصاحبة لنص يبدأ في التكون، قبل أن تنتفي بدورها. لا يوجد شكل واحد وثابت للجندر الذي يمكن أن نرسم حدوده. الحدود تتسع وتضيع ويبقى اسم الرواية ثابتاً وحياً. الكثير من الروايات التي تنتمي إلى هذا العنصر تخفق في أن تصل إلى قارئها لأننا كلما توغلنا في النص أفسدت النرجسية المغالية قوة الكتابة وحولت النص إلى خزان مفضوح تغيب فيه البنية والكتابة والرواية. تكرر لأن الكاتب فشل في حرق ذاتية النص لينشئ من رمادها ذاتاً جديدة، ذاتاً نصية أخرى. 3 كثيراً ما تربط الذاتية بالسيرة الذاتية المعلنة. هذا أمر آخر لأننا أمام نوع يأخذ الذات فيحركها ومساراتها يرسمها الكاتب وفق الخصائص المحددة للنوع التي ترتسم في النص بحثاً عن تعبيرها وهويتها.
الكاتب معلن والبطل والشخصية الرئيسية يسيران في النسق نفسه. كما يحدد ذلك فيليب لوجون. الأدبية مربوطة في القدرة على اختيار اللحظات الحياتية الأكثر حيوية وانتقاء. وقابلية للاندماج في نص هو في النهاية بناء سير ذاتي. تتمظهر السيرة الذاتية بوصفها معيشاً. رواية عالمية مثل فراشة لهنري كاريير رسمت حدود النوع، لكن غنى التجربة القوية أعطاها الإحساس بأنها نمط مغامراتي حقيقي لأن شخصية الكاتب ليست حالة اعتيادية ولكنها مُنتج لحياة قلقة بكل حيلها ومآسيها.
وعلى الرغم من كتابته جزءاً ثانياً إلا أنه فشل في منتج جديد ومميز، لأنه فشل في حرق ذاتية النص الأول لينشئ شيئاً جديداً من خلال ذاتية أخرى. كنت أكتب عن الأمير لا أملك إلا خطاباً متداولاً وثقيلاً وغير مقنع، سطح الأمير في إيقونة ثابتة وخالصة. أنا لم أعش زمن الأمير. ولم أكن مقتنعاً بالتاريخ الجاهز والسياسي الذي كتب عنه. تاريخ مصنع ومدرسي ومكتوب بصورة واحدة ومتكررة تكاد تكون مثالية لا تقدم شيئاً. وكان علي ترميم التجربة بالقراءة أيضاً في كل تناقضاتها. 400 كتاب لم تكن كافية لأخرج منها شيئاً جديداً ومميزاً.
أكملتها بالزيارات المختلفة لمواقع حياته وتجربته. سرت عبر الأمكنة الكثيرة التي صنعت الأمير والتي لم تبق اليوم إلا أصداؤها. حي المغاربة في دمشق. أماكن الحروب . قصر أمبواز، مواقع ولادته وطفولته، كتبه التي قرأها، في غاية شديدة الصعوبة لفهمه والدخول في خصوصية وإنشاء ذاتية إبداعية نصية خاصة بالنص الذي كنت بصدد إنتاجه. شممت الروائح التي كنت أبحث عنها في الأماكن المغلقة التي مرّ عبرها الأمير. شممت رائحة الرطوبة في قصر أمبواز، ورأيت الأمير وهو يتخفى من البرد والخوف من الآتي. رأيته يدفن إحدى زوجاته في الساحة العليا من القصر، وأحد أبنائه وأصدقائه الذين سرقهم البرد والعزلة والموت بسبب الأمراض.
كان علي العمل لإنشاء ذاتية النص وليس الانتقاء وفق الحاجة ولكن وفق مقتضيات بناء الشخصية، وحاجة المسار الروائي. بعد أربع سنوات ظهر لي الأميرالمنتسب إلى ذاتيتي الإبداعية أنيساً وصديقاً، بعد كسر صورة القداسة، خارج الأساطير واليقينيات المطلقة التي قتلته وحنطته. أمير يشبهني، يشبهنا قليلاً أو كثيراً، منصت لعصرنا كما أنصتنا لعصره وإلا ما جدوى الرواية التاريخية؟
كان علي في النهاية إنجاز ذاتية مرتبطة بالنص، سرعان ما احترقت عندما بدأت الكتابة في رواية: رماد الشرق التي بعد ثلاث سنوات عبر العربي أنشأت ذاتية أخرى جديدة. هذه العملية في حرق الذوات تكسر السهولة التي تجعل من الذات الصغيرة الفردية والمرضية، صنماً مقدساً هو أكبر حاجز لتجلي الإبداع.
نقلاً عن القدس العربي