يكاد يختصر موقع "ويكيليكس" في مسيرته وتحولاته مجمل قصة الآمال المرتبطة بالثورة الرقمية على صعيد الشفافية والحرية وتمكين الأفراد والجماعات والشعوب. فالموقع الذي حصد قبل سنوات جوائز وتقديرات من مؤسسات مرموقة عالمياً على المستوى الإعلامي وحقوق الإنسان، مثل "إيكونومست" ومنظمة "العفو الدولية"، يتحول اليوم إلى داعم علني لليمين المتطرف والشعبوية اللذين تقوم أجندتهما على العنصرية ونشر الكراهية والانغلاق.
يبدو ذلك مثبتاً الآن، وبشكل لا يكاد يقبل الشك، من خلال الدور الفاعل الذي اضطلع به "ويكيليكس" في نشر الوثائق المقرصنة من حملة مرشح تيار الوسط إيمانويل ماكرون، عشية الجولة الحاسمة للانتخابات الرئاسية الفرنسية، بما يخدم فقط مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان. وقبل ذلك تولى الموقع نشر الوثائق المقرصنة الخاصة بحملة مرشحة الرئاسة الأميركية هيلاري كلينتون، بما ساهم بشكل كبير وربما حاسم في فوز رمز الشعبوية عالمياً؛ دونالد ترامب، برئاسة الولايات المتحدة.
ولعل توقيت نشر المواد المقرصنة في الحالة الفرنسية (ولو اضطراراً؛ بافتراض عدم التمكن من الحصول عليها قبل ذلك)، وتبعاً لذلك امتناع أغلب الصحف الفرنسية عن نشرها؛ إن التزاماً بالصمت الانتخابي الذي يفرضه القانون قبل أربع وعشرين ساعة من الانتخابات، أو التزاماً بالمعايير المهنية التي تقتضي التحقق من صدقية الوثائق كما أكدت صراحة صحيفة "لوموند"، هذا التوقيت يفضي إلى استنتاج هدف أهم وأبعد مدى من التأثير في انتخابات محددة، هو خلق الشك العميق وطويل الأمد بالمؤسسات والعملية السياسية ككل –ولا سيما العملية الديمقراطية- لدى المواطنين. وهو الهدف الذي كان قد أشار إليه كثير من الخبراء في الحالة الأميركية أيضاً عندما كان اليقين سائداً بفوز كلينتون بالرئاسة برغم فضيحة وثائق حملتها والحزب الديمقراطي ككل.
هكذا، وبالنتيجة، تأتي حرية الحصول على المعلومات (ولو بالقرصنة) ونشرها، على حساب الحرية بمعناها ومضمونها الأشمل، عبر تمكين العنصريين من السيطرة حتى على الدول الديمقراطية، وصولاً في النهاية إلى عولمة الكراهية والانغلاق بدلاً من عولمة الحرية والانفتاح والتعايش.
وليس السؤال عن أسباب تحول "ويكيليكس" بمقدار مائة وثمانين درجة؛ فمن يقف خلف القرصنة (وحتى الفبركة) بمقدوره إنشاء موقعه الخاص مغفل الهوية، كما حصل ابتداء في الحالة الفرنسية. السؤال الوحيد المهم هنا، والذي يفترض أن يكون بدهياً، هو كيف يمكن كسب المعركة في مواجهة المستبدين الفاسدين والعنصريين الذين يريدون تعميم أجندتهم لأجل حفنة مستفيدين من الاتجار بالخوف والكراهية، على حساب حرية ورفاه أغلبية سكان الأرض.
الشرط الأول ولعله النهائي، هو إدراك أنها معركة تُخاض في العالم الفعلي وليس الافتراضي؛ أي هي ليست حرب "جدران نارية" وبرمجيات، بل معركة التأكيد على مزيد من الشفافية والنزاهة لدى المسؤولين كما في الأداء الإعلامي، بما يلغي تأثير التلاعب العدمي بالعقول والمواقف الشعبية. وبذلك تصبح حتى فبركة الأخبار غير الصحيحة أبداً، عبر التصدي لها، سبباً في مزيد من تمكين الشعوب وتحصين الديمقراطية التي ستظل المطمح النهائي بكل مؤشراتها، ولا سيما حقوق الإنسان.
الغد