في متجر العطور ، حيث الجو عابق بنسائم عطرية لينة تجوب الفضاء شهية مبهجة ، والأصناف مرتبة فوق الرفوف بعناية بالغة ، بأشكال وأحجام وألوان متعددة ، والبائع متأنق كعريس في ليلة زفافه ، يتحدث بصوت خفيض ، من ورائه موسيقى ناعمة ، يناسب إيقاعها هدوء المكان ووداعته .. هناك وقف مازن يتحدث إلى البائع ، منتقلا وإياه من رف إلى رف ، ومن صنف إلى صنف ، حتى وقع اختياره على صنف محدد ، فهمَّ بدفع ثمنه ومغادرة المكان .....
رآها مقبلة من باب المتجر ، تتجه نحو البائع الآخر ، على وجهها مسحة من الجدية ، وفي خطواتها ما يوحي بأن الأرض لم تُبسط إلا لتسهيل طريقها وإيصالها إلى مقصدها . قلَّبت عينيها في المكان ، ووقفت غير بعيد منه فاستطاع أن يصغي إلى حديثها ، ويميز سيلا من الغنج والدلال اقتحم مسمعه ....
" ماذا لديكم من أصناف جديدة ؟ "
" عندنا ما تحبين وتشتهين يا آنستي ، هل تريدين عطرا خفيفا فواحا ؟ أم ترغبين بعطر قوي مُركز ؟ "
" أعطني شيئا قويا نافذا إلى الأعماق " ....
نفذت الكلمات إلى أعماقه هو ، فساد الكون من حوله سكون رهيب ، وانسحبت كل الأشياء من خلفية الصورة تاركة إياه وحيدا في مأزقه . حدثها في نفسه قائلا : ( ما حاجتكِ إلى العطر النافذ وكل ما فيكِ يجتاح الأعماق فيحيلها إلى لهيب وحمم ؟!! ) . أخذ ينظر مشدوها .. إلى لوحة مليئة بالرموز والإيحاءات ، أو تمثال أجادت يد صانعه نحت التفاصيل وإبراز مكامن الجمال . أذهله كل شيء فيها .. قوامها متناسق يخلو من الزوائد إلا قليلا مما استقر في الأرداف والنهدين ، فتكورت ، الأرداف كقبة عاجية يحار الناظر في إدراك بديع هندستها ، والنهدان كصقرين متوثبين للانقضاض في أقرب لحظة . وجهها مستدير صفحته صافية تميل إلى الامتلاء ، أنفها دقيق وشفتاها تنفرجان قليلا في الوسط . شعرها يميل إلى القصر ، منحن إلى الخارج عند نهايته . بياض يديها وساقيها مثل بياض غمامة عابرة في سماء صيفية . ملابسها على المقاس أو تحت المقاس بدرجة ، تضيَقُّ فتعتصر جسدا يتفجر فتنة وإغراء .. تنورة بيضاء أقصر من الركبتين قليلا ، وقميص أسود انحل زره العلوي فكشف مساحة لا بأس بها من النهدين ، و شفّت نهايته عن بياض بطنها . كانت تتحرك بعناية كمن يحسب كل خطوة قبل أن يخطوها ، طلبت من البائع أن يرش لها عطر أحد الأصناف على طرف معصمها ، فلما رفعت معصمها إلى أنفها ، برز إبطها مثل مغارة جليدية بكر لم تطأها قدم إنسان . أما مكمن الفتنة الحقيقي وسر الجذب الرهيب فكان عينيها ، ليس في اتساعهما ولا في شدة البياض وعمق السواد في البؤبؤين فحسب ، وإنما فيما هو أهم وأخطر ، في النظرة المستسلمة .. الآثمة ، وداعي الغواية الذي يمتد منهما فيعتصر جسد الرائي وبقايا عقله ، مستخدما من الجبروت ما لا تستطيعه أمة من المحاربين الأشداء .
كان المشهد فوق احتماله ، أخذت دقات قلبه تتسارع ، وانطلق النبض متفجرا في الشرايين . احمرَّ وجهه وبدت أرنبة أنفه مثل جمرة مشتعلة جاوزت حرارتها حرارة باطن الشمس . غاص في التفاصيل الدقيقة ثم تجاوزها فولج إلى ما استكن بعيدا عن الأنظار . امتزج عالمه الخارجي بعالمه الداخلي فسرح خياله بغير رقيب ، وأنشأ عالما جديدا خاصا به هو ، عالما أعمق وأمتع من عالم بجماليون الخرافي ، فهو خالقه وباعث الروح فيه في آن معا ... عالما خلف الجدران ، حدد عمقه واتساعه ، وأثاثه ومكان السرير فيه ... عالما غير مستطاع إلا في الأحلام العاجلة والسيناريوهات المحترقة ، فيه أبواب مغلقة ، وجدران ضبابية ، وسجائر ، وخمور ، وموسيقى شرقية ، وملابس ، وعناق ، وقُبَل ، وكلام ناعم هامس . لقد انشأ في ذهنه رواية كاملة ، أحداثها تجري ضمن لحظة تم اقتطاعها من فم الزمان ، فلا قبل لها ولا بعد .. لحظة دائرية ، عند نهايتها تكمن بدايتها ، أرادها كالأزل أو أطول منه قليلا .
في غمرة انشغاله التفتت باتجاهه ، فرأت شعاع عينيه مصوبا إليها ، يخترقها من أعلاها حتى أسفلها .. تفاجأت للوهلة الأولى ، ثم تظاهرت بعدم الاكتراث فتابعت حديثها مع البائع وطلبت منه أن يلف لها زجاجة عطر وقع اختيارها عليها . غادرت المتجر بعد دقائق معدودة فمشى وراءها وتبعها كظلها من شارع إلى شارع ومن رصيف إلى رصيف . كان يتحرك حركة آلية ، ويتبع غريزته مثل ذئب تئن أضلاعه تحت وطأة الجوع والحرمان . لقد خبر كثيرا من النساء قبل هذا اليوم ، غير أن هذه المرأة استفزت فحولته بشكل مختلف . رأى فيها زمنا جديدا ، لا يشبه الماضي الذي ألفه في صباه ، زمنا يعج بالتناقضات ، بالعري الفاضح مختلطا بالفضيلة الساذجة .. يطلان من نفس المكان ، يتزاحمان عبر نفس الأثير ، يتجاوران وكأن كلا منهما يستمد قوته من الآخر . لم تعد الأشياء تسمى بأسمائها الحقيقية ، الفضيلة اختلطت بالتجارة ، والعهر تحول إلى فن ، والأجساد ملقاة على قارعة الطريق .. سوق نخاسة كأسواق العصور الوسطى ، غير أن تجاره اليوم متأنقون ، يحملون شهادات عليا ويتحدثون لغات أجنبية ، وجواريه كذلك ، يعرفن شروط اللعبة جيدا ، يتقن قولبة الأشياء واللعب على الحبال ، فَيَسْتَعْبِدْنَ من حيث يُسْتَعْبَدْن . انه يتخبط ضائعا ، يدرك حقارة ما يفعله في هذه اللحظة ، لكنه أضعف من أن يقاوم تيارا جائحا كالذي يعتصره الآن ، فليمش مع التيار إذن ، وليدفن رأسه بين الرؤوس .
دخلت ممرا ضيقا يصل بين شارعين رئيسيين ، فدخل وراءها . هناك التفتت إليه فجأة ، وقالت بعينين تقطران شررا :
" أنت يا هذا ، ألا تخجل من نفسك ؟ " .
" ولم الخجل أيتها الحلوة ؟ هل فعلت ما يضايقك ؟ " .
" انك تتبعني منذ خرجت من متجر العطور ، هل تظن أني غافلة عنك ؟ " .
" حاشا لعينيكِ الجميلتين أن تغفلا " .
" دعني وشأني إذن " .
" ليس قبل أن تدعيني أنت ... ".
" ما هذه البجاحة ؟ أنا لا أعرفك أصلا " .
" هكذا أنتن معشر النساء ، تقتلن القتيل ثم تمشين في جنازته . تلقين البذور في الأرض ثم تلمن السماء إن سقتها فأنبتت وأزهرت " .
" ما قصدك ؟ " .
" تعرفين قصدي تماما ، غير أنكِ مثل غيركِ .. متناقضة أو غائبة عن الوجود " .
" كفاك افتراء وانظر إلى نفسك أيها العربيد المنطلق من عقاله ، لا يرعى حرمة ولا يقيم وزنا لخلق قويم أو شهامة ... " .
" وهل رعيتِ أنتِ حرمة نفسكِ بهذا اللباس الفاضح ؟ " .
" هذا شأن شخصي ليس لك به علاقة من قريب أو بعيد ، لكنّ أمثالك يبحثون عن مسوغ من أي نوع كي يبرروا لأنفسهم دناءة أفعالهم . أكثركم كذلك ، تحشرون أنفسكم في زاوية ضيقة لمجرد خاطر أو هاجس يلوح من بعيد . تتخلون عن وقاركم وترمون مبادئكم وراء ظهوركم أمام شهوة عابرة . تتصيدون الهفوة وربع الهفوة ، بل أنكم لستم بحاجة إلى هفوات كي يسيل لعابكم وراء أول طريدة . تتعلمون وتحملون أعلى الشهادات ، لكن نظرتكم إلى المرأة لا تتغير ، جسد ومتعة ، ورحم وذرية . ثم إنكم أنتم أصل التناقض .. تبيحون لأنفسكم هتك أعراض الآخرين .. فان اقترب الآخرون منكم أو من بيوتكم ثرتم وحرقتم العالم من حولكم " .
" تتحدثين عن هفوات ، والأجدر بكِ أن تقولي جرائم . لا أدري بأي منطق أفسر كلامكِ المعوج . تريدين من الرجل أن يخرج من ثوبه الإنساني أو يغدو ملاكا كي لا يسقط في آلاف الشراك التي يواجهها كل يوم . لعلك تتحدثين بلغة زميلتكِ التي تقول " كن صديقي " ، هذا أسخف كلام سمعته في حياتي ، ليس لأني عاجز عن اتخاذكِ صديقة أو زميلة ، بل لأنكن تقتلن أسباب الصداقة في مهدها ، إذ تطلبن من الرجل .. الإنسان ، ما هو فوق طاقته . احتشمي وترفعي عن الابتذال ، عندئذ نستطيع أن نكون أصدقاء " .
" توقف عن اعتبار نفسك مركز الوجود ، وانظر لي كشريك وليس كتابع ، ثم عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك ، عندئذ قد تعتبرني صديقة " .
" تحلمين يا هذه ، تريدين أن ترضي غروركِ الأنثوي وتبرزي ما لذ وطاب من مفاتن جسدك ، دون أن تدفعي ثمنا مقابل ذلك ، انك تلقين الحمل كله على الطرف الآخر ، وتستمتعين بلعب دور الضحية البريئة ، بينما أنت في حقيقتكِ منغمسة في الإثم ، خالقة لاجوائه . لا أريد أن أعمم كي لا أكون ظالما ، لكن انظري الى الكثير من بنات جنسك ، ممن أغوتهن الكاميرات وعشقن الظهور أمام الجماهير الساذجة ، انهن ديكورات هدفها تلميع الصورة وجذب الانظار ، يجري ذلك على حساب كرامتهن فيطعن ويندمجن في اللعبة . ان كنت لا ترين بشاعة الصورة فأنت عمياء أو مخادعة " .
" بل أنت المخادع أيها الذئب البشري " .
" أنا ذئب بشري ! أيتها الأفعى الماكرة " .
" يا لوقاحة عينيك ! " .
" ملابسكِ أوقح " .....
عند هذه المرحلة كان صوتهما قد علا كثيرا ، فتجمع المارة حولهما وكثر المتطفلون . مرت دورية شرطة بالمكان فعرفوا تفاصيل الذي يجري من الجمهور . اقتادوه من رقبته ، سأله الشرطي :
" ما اسمك أيها الوغد ؟ " .
" مازن " .
" لقد وقعت في شر أعمالك ، سوف تبحث عن الرحمة ولن تجدها " .
ألقوا به في السيارة بعد أن قيدوا يديه . أخذوه إلى المخفر وتناوبوا على توجيه الصفعات والركلات إليه . ألقوه في النظارة فزكمت انفه رائحة العفونة والعرق المنبعث من الأجساد التي ازدحم بها المكان . أما هي فكانت قد وصلت إلى بيتها ، فبدلت ثيابها وفتحت زجاجة العطر الجديدة ، تأهبا لمشوار المساء .....