يُحسب لمعرض أبو ظبي الدولي للكتاب تكريمه هذا العام شخصية ابن عربي (1165-1240). وتكمن قيمة هذا التكريم للتصوّف الفلسفي، أنه يعيد إلى الواجهة النقاش بشأن الإصلاح الديني، من خلال التركيز على عقلنة المُثل والتجارب الدينية، وتوسيع مِروحة أنماط التديّن، وتقليص الفجوة بينها وبين الاختيار الفردي، وفرز ما تنطوي عليه تلك التجارب من معانٍ إنسانية تنظر إلى الإنسان باعتباره قيمة مركزية في الكون والحياة، وتأثير هذا كله في مسيرة ومحاولات الإصلاح الديني الإسلامي والنهضة والتنوير.
إعادة الاعتبار إلى ابن عربي إنما يسهم في بلورة ما يسميه فهمي جدعان "الأصول البِذرية" للعقلانية الإسلامية والحداثة الأخلاقية الإسلامية؛ التي وُجِدت في مصنفات المعتزلة والتوحيدي والمعرِّي ومسكويه وابن سينا وابن رشد و"إخوان الصفا" وأهل التصوف، ممن كان الإنسان شاغِلَهم في النظر والبحث والكتابة.
وثمة باحثون لفتوا النظر إلى أن فكرة (الإنسان الكامل) ظهرت في الثقافة العربية، وانطوت في تضاعيفها على النظر إلى الإنسان كفكرة مركزية في الوجود، وعلى أنه قادر على بلوغ الدرجات العالية للإنسان الكامل. وقد تداول هذه الفكرة ابن عربي والسهروَرْدي والحلاج وعبدالكريم الجيلي. وقد تم البحث في أن النزعة التنويرية التي مثَّلها ابن الراوندي ذاعت بين الناس آنذاك، إلى أنْ خبت وفقدت فرادتها مع نهاية القرن السابع الهجري. والحقيقة أن انطفاء هذه الجذوة أفضى إلى فكرٍ وفقهٍ وتراثٍ ديني يكرّس صورة للإنسان والعقل على أنهما "قاصران".
ولا شك في أنّ تراجع التوجُّه إلى الإنسان باعتباره قيمة عليا وفكرة مركزية في هذا الكون، كان نتيجة طبيعية لغلبة الفقهي على العقلي والفلسفي في الثقافة العربية الإسلامية إبان عصور الانحطاط، واختلاط الدين بالتديُّن، وضمور بند الحرية والفردانية، لحساب انتشار عقلية التحريم وسدِّ الذرائع، والإفراط في الحماية والمبالغة في "الطهرانية"، والإسراف في مفاهيم "الولاء والبراء"، وتقسيم العالم إلى قسمين مسلم وغير مسلم، والتشدد مع المرأة وعلاقة الرجل بها، وتقديم نظرة متشائمة للحياة. ذلك ما أضعف الاستجابة لتقليد أخلاقي غزير في الحضارة الإسلامية، اتسم بالنزعة الإنسانية، والعمق الفلسفي، والعقلانية الرحبة، والحث على الإبداع العلمي، والبحث في النفس الإنسانية والضمير، والرقي الروحي؛ وهو ما كان قائماً طيلة أكثر من ثلاثة قرون (منذ منتصف القرن الثاني الهجري، وحتى منتصف القرن الخامس الهجري)، هي أكثر فترات الحضارة الإسلامية ازدهاراً.
إن التحدي أمام أي مشروع تنويري في المنطقة العربية هو إزالة الفجوة بين الانتماء للعصر والحداثة وثقافة حقوق الإنسان وبين "الانتقائية الخلاّقة"، التي تتأسس على مقاربة أنّ أي تنوير أو إصلاح ديني مُرتجى يتصف بالواقعية والتدرّج والحكمة ينبغي له، وهو يجري المراجعات والقراءات النقدية للتراث والتاريخ الإسلامي، أنْ يُقِرّ بأهمية البناء على "الأصول البِذرية" للعقلانية الإسلامية والحداثة الأخلاقية الإسلامية، وإدراك أن جذور التحضر في الخبرة التراثية الإسلامية جاءت من مرونة الانفتاح على الثقافات الأخرى والعلوم المختلفة، والشغف بالآداب والعلوم والفنون والفلسفة والترجمة، فكان تحضّر المجتمعات الإسلامية نتاج هذه التوليفة، دون هيمنة مُعطِلة للحياة من قِبل السياق الفقهي والفُتيا.
اشتغال "الانتقائية الخلاّقة" قد يتجلّى، مثالاً لا حصراً، في قول ابن عربي إنّ "الإله واحد والطرق إليه متعددة"، وقول "إخوان الصفا": "اعمل الخير لأنه خير"، وقولهم: "أردْ للغير ما تريده لنفسك"، وهذه وغيرها مداميك تأسيسية لأخلاقٍ ترتكز على الحرية وعدم الإكراه والإرادة الإنسانية المستقلة، فضلاً عن اختزانها بذور تسامحٍ متساوٍ مع الآخر، وليس فوقياً، بما يمنع فكرة التفضّل والمنح ممن هو أعلى لمن هو أدنى، وهذا هو صُلب فكرة المواطنة المتساوية.
الغد