القدس .. بين ميراث التاريخ وأسئلة المستقبل
سامح المحاريق
04-05-2017 02:33 AM
في مشهد عبقري من فيلم مملكة السماء للمخرج ريدلي سكوت وبعد مفاوضة الفارس الأوروبي المتخيل لصلاح الدين الأيوبي حول شروط استسلام الفرنجة في القدس يتساءل الفارس حول قيمة القدس بالنسبة لصلاح الدين فيجيبه الأخير بـ (لا شيء) ثم يمضي في خطوات قليلة ليلتفت له ويقول: و(كل شيء)، وربما يلخص المشهد وضعية القدس اليوم في الصراع القائم حول المدينة بين العرب وما يسمى بدولة اسرائيل.
نفاق الحركة الصهيونية واستغلاليتها جعلتها تنبش التاريخ من أجل البحث عن تسوية لمأزق الاستعمار التقليدي من خلال صفقة تتخلص من خلالها أوروبا من اليهود بوصفهم أقليات خارج العصر الأوروبي ومواصفاته وطموحاته لتلقي بهم في وسط المنطقة العربية التي تتوسط بدورها العالم، ويتواصل النفاق بأن تضرب هذه الحركة عرض الحائط بالتاريخ كله، وبدلاً من أن تسعى لإقامة الدولة المستندة لمزاعم تاريخية هشة في الأراضي التي شهدت في مرحلة من تاريخها وجوداً سياسياً لما يسمى بالشعب اليهودي وتحديداً في السامرة ويهوذا أو ما يعرف اليوم بمناطق الضفة الغربية أخذت الهجرة اليهودية تكثف وجودها الاستيطاني في الساحل الفلسطيني ذي القيمة الاستراتيجية الهائلة، وهو الذي لم يشهد أصلاً وجوداً يهودياً يعتد به في أي وقت من التاريخ.
هذه الحقائق من شأنها أن تكشف ما مارسته الحركة الصهيونية وما زالت من تلاعب بالتاريخ وتوظيف مشبوه لفصوله المختلفة، فالممالك اليهودية القديمة، وهي أقرب إلى ما تكون بمجرد دويلات محلية كانت عابرة في تاريخ المنطقة، وعاشت في صراعات مستمرة مع جيرانها على الساحل الفلسطيني والداخل الأردني، أو ما يعرف اليوم بفلسطين والأردن وكانا تقريباً في معظم مراحل التاريخ أرضاً واحدة تمتد حول نهر الأردن وتكتسب صفة القداسة الدينية لدى المسيحيين والمسلمين على السواء.
القدس معركة حول التاريخ والمستقبل، ولكنها في الوقت نفسه تمثل بالنسبة لاسرائيل أفضل فضاء مفتوح للمناورة وخلط الأوراق، ويبدو أن ما يؤدي إلى توتير اسرائيل حالياً من قرار اليونسكو حول اعتبارها محتلة للمدينة لا يتعلق فقط بالمدينة ولكن يمتد ليضرب صلاحية ورقتها الكلاسيكية التي تهرب من خلالها من أي تفاوض أو التزام وتستخدمها للتغطية على جرائمها في حق الإنسان الفلسطيني والإنسان العربي بشكل خاص.
اسرائيل دولة تقوم على القرصنة والبلطجة وجرائمها لا تتوقف بحق الفلسطينيين وبحق مختلف جيرانها، والفصل العنصري للمناطق الفلسطينية وامتهان الإنسان الفلسطيني من خلال المطاردة والحبس والممارسات الجائرة، وسرقة المياه والثروات الطبيعية، كلها جرائم كانت دائماً اسرائيل تدفع بالوضعية الحساسة للقدس من أجل التغطية عليها وبحيث تتحول جرائمها واعتداءاتها المتواصلة إلى أمور ثانوية وراء وضعية القدس التي تكتسب القيمة الروحية لدى العرب المسلمين والمسيحيين على السواء.
اليونسكو ومعه مجمل الحركة الثقافية في العالم، وبعد التحرر الذي أحدثته وسائل الاتصال الحديثة من هيمنة الخطاب الإعلامي الشمولي الذي سيطرت اسرائيل على مفاتيح التأثير فيه، كلها عوامل تؤكد اليوم هشاشة الوجود الإسرائيلي في المنطقة مهما بلغت مظاهر القوة والتفوق التي تحاول اسرائيل تصديرها وصيانتها، وبتفويت فرصة سحب المعركة للتاريخ أكثر من ذلك في وسط اعتراف أخلاقي من الضمير العالمي فإن اسرائيل ستجد نفسها مضطرة مع الوقت لمواجهة أسئلة المتسقبل، وأن تدفع استحقاقاته وأن تعيش مخاوفه.
الرأي