عمون - أين الإعلام؟، وسؤال كبير حول موضوع معقد تعرّض له منتدى الإعلام العربي في محاولة لإيجاد إجابة شافية بعدما أصبحت السيادة في الحصول على المعلومة والأخبار في نسبتها الغالبة محصورة في شبكة الانترنت" ووسائل التواصل الاجتماعي التي تنشر كل ثانية طوفاناً هائلاً من المحتوى مع صعوبة بالغة للمتلقي أن يتحقق من صحتها ومصداقيتها، ما نتج عنه أخطار هائلة بل وكوارث في أرجاء المعمورة وذلك وفق ما يراه علي جابر، مدير عام قنوات إم بي سي، الذي تحدث خلال فعاليات اليوم الثاني للمنتدى.
وبقدر ما ذكره جابر في حديثه من مستجدات صعبة للغاية غيرت مصير أمم ووضعت صورة مشوهة أمام القارئ والجمهور بصفة عامة وهَماً كبيراً للإعلاميين بوسائل الإعلام التقليدية، فإنها – للأسف أصبحت واقعاً وصفه بالكارثي وقال إنه يفرض علينا العمل بكل السبل على مواجهته من أجل أجيال جديدة تستطيع التمييز بين الحقيقة والأكاذيب والإشاعات.
وقال علي جابر إن قاموس ويبستر واكسفورد للغة الانجليزية يزيد سنوياً كلمات مستجدة على اللغة، تعبر عن واقع ما يحدث في العالم، حيث أضاف العام الماضي مصطلح unfriend، وهذا العام أضاف مصطلح post truth (أي ما بعد الحقيقة)، مشيراً إلى أن هذا المصطلح ومصطلحات أخرى ازدحمت فيها كل الخطابات الاعلامية في العالم، مثل fake news (الأخبار المُفبركة) وalternative facts ( حقائق بديلة). وللأسف فإننا لم نعد قادرين على استيعاب هذه المصطلحات، لكنها أصبحت أموراً جديدة على واقعنا الإعلامي وثابتة في الحوارات الإعلامية، وهذا يعني أن الحقيقة لم تعد كاملة absolute value ، بل أصبحت قيمة نسبية تقاس بنسبة مئوية، وأصبح تصورنا الشخصي غير الموضوعي للواقع هو الحقيقة!.
وقال علي جابر إن هذه النظرة أثرت على الإعلام الذي نعيشه، وعلى منظورنا الفكري تجاه الأمور السياسية إلى درجة أنه تمت ترجمتها على أرض الواقع من خلال تطورات سياسية غير مسبوقة، كما أثرت هذه الحقائق البديلة على الخطاب الإعلامي عبر ظاهرتين هما نتائج الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وذكر مثالاً دالاً على ذلك بحملة اعلامية هائلة نظمها الداعمون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حيث أظهر خطابهم الإعلامي في أحد الأخبار أن بريطانيا تتحمل أعباء مالية للاتحاد الأوروبي قدرها 350 مليون جنيه استرليني مع استمرار بقائها تحت مظلته، وقال إن هذا الخبر كاذب بنسبة 100%، وكان يهدف لدفع الناس للتصويت لخروج بريطانيا منه.
كما تم نشر صورة لفيضان من البشر، استخدمها قادة حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي، قالوا إنهم نازحين من سوريا يطرقون أبواب بريطانيا طلبا للجوء، وفي الحقيقة كانت هذه الصورة مزورة والتقطت في المجر وليس بريطانيا لكنها استخدمت للعب على عواطف البريطانيين، ودفعهم للخروج من الاتحاد الأوروبي.
وقدّم مثالاً آخر بصورة انتشرت في وسائل الاعلام أظهرت أن الذين شهدوا تنصيب ترامب كان أقل بكثير ممن شهدوا تنصيب الرئيس السابق أوباما، وهي صورة قال ترامب إنها كاذبة.
وأشار علي جابر إلى أن شبكة الانترنت والتكنولوجيا الرقمية المتطورة سمحت بارتفاع هائل في أعداد مصادر الأخبار، بعضها صحيح، لكنها خلقت أيضا عالما خطرا، ملئ بالشائعات والاخبار الكاذبة التي اصبحت تتمدد وتنتشر كالنار في الهشيم، وبعض الاخبار المغلوطة اصبحت تنتشر على الانترنت ويصدقها ويتشارك بها مجموعة من الأشخاص في شبكة واحدة يثق ببعضهم البعض أكثر مما يثقون بأي وسيلة اعلامية أخرى، وقال علي جابر:" هذا هو النموذج الحالي الذي أصبح عليه الاعلام"، وأصبحت هذه الاخبار المغلوطة ترتدي طابع الحقيقة بغض النظر عن أي دليل حسي يعارضه، وذلك بسبب وثوق المجموعات او الاشخاص الموجودين ضمن هذه الشبكة ببعضهم البعض، ولأن منطق هذه الاخبار المغلوطة يتناسب ظاهريا مع المبادئ والمعتقدات التي يؤمن بها هؤلاء الاشخاص.
وأضاف مدير عام قنوات إم بي سي أن هناك تحولا حقيقيا نحو الصحافة والسياسة التي تتغلب فيها المشاعر على الحقائق، وهذا التحول نتج عن خلق واقع من الاكاذيب المتعمدة بهدف التضليل الاعلامي لأسباب سياسية،، وقال ان اساس هذا التحول هو تراكم ممارسات تاريخية أدت الى فقدان الثقة بمؤسسات كبرى وعريقة، وضرب مثالا على ذلك بالأمم المتحدة التي كذبت هي وزعماء دول غربية على العالم أجمع بعد احداث 11 سبتمبر 2011 ، وقالت ان بالعراق اسلحة دمار شامل ، والنتيجة الاولى كانت قيام حرب مدمرة راح ضحيتها مئات الالاف ، والنتيجة الثانية فقدان المصداقية لأهم منظمة دولية.
وضرب مثالا آخر بالتقارير المتناقضة التي تنشرها المؤسسات الطبية والصيدلية التي ادت الى فقدان المصداقية في الابحاث الصادرة عنها ، منها على سبيل المثال :هل الدهون مفيدة ام مضرة ، هل السكر مفيد أم مضر؟ وأصبح الناس لا يعرفون الحقيقة. ونتيجة ذلك الناس نزحت عن تصديق ما تريده هذه المؤسسات واتجهت لتصديق بدائل ترتاح ها موجودة على الانترنت، واشار استطلاع للرأي أجرته IPSOS مؤخرا إلى ان البريطانيين يثقون" بالناس في الشارع" أكثر من قادة الاعمال والسياسيين والصحفيين!.
وأوضح أن الخلط بين الأكاذيب والشائعات من جهة، وبين الحقائق من جهة أخرى قد تأجج، خاصة بعد نشرها بدون حسيب أو رقيب في وسائل الاعلام الاجتماعية، مضيفا ان بحثا حديثا أجرته شركة Pew أشار إلى ان ثلثي البالغين الامريكيين يحصلون على أخبارهم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي. وقد أتاحت شبكة الانترنت خدمة الاخبار المصممة خصيصا والموجهة لأنواع محددة من المستهلكين، ووفقا لإحدى الجامعات، يمكن للأفراد الذين لديهم تفكير أو رأي مشترك العثور على كل ما يخص هذا الرأي وهذا التفكير من خلال تداولهم ضمن شبكتهم، وهذا يعني استبعاد كل ما لا يتطابق مع تفكيرهم.
وقال إننا الآن فقط بدأنا في فهم آلية عمل وسائط التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر وانستغرام وغيرها)، ومدى تأثيرها وذلك من خلال عملية" الفرز المثلي"، أي فرز الناس المتوافقة فكرياً في مجموعات وشبكات مشتركة، حيث اصبح هناك استبعاد لكل ما لا يتوافق مع ارتياح الناس، ووصف هذا بالخطر الكبير، مشيرا الى ان وسائل التواصل الاجتماعي اصبحت الوسائل المفضلة للناس للحصول على المعلومات ومتابعة ما يجري دون التحقق من صحة ما ينشر بها.
وقال إنه أصبح رائجا ان تشن بعض الجهات أو الأشخاص ما يعرف بـ" الحملات السوداء" وهي النشر المتعمد للأكاذيب التي تهدف الى تحطيم مصداقية الشخص المستهدف أو الجهة المقصودة.
وقال إن الاعلام، مثل المؤسسات القانونية والتربوية والجامعات، هم أسس للبنية التحتية المنتجة للحقيقة، وهذه ركيزة من ركائز المجتمعات المتطورة، مشيراً إلى أننا في أمس الحاجة إلى صحافة ذات مبادئ، تلك التي تخضع المسؤول للمحاسبة وتبرز كل ما هو غير منطقي ومسي، ودعا المحاورين من مقدمي البرامج والصحفيين الى اليقظة والتنبه إلى عدم وصول الأكاذيب التي قد يطلقها ضيوفهم الى المشاهدين والقراء.
وأضاف:" إذا كانت وسائل الإعلام الإخبارية والشخصيات العامة هي من تنشر الشائعات والاكاذيب، فإنها تفقد مصداقيتها ومكانتها كمصدر معلومات موثوق من قبل الناس، يجب ان نضع سمعة هؤلاء ممن ينشرون الاخبار الكاذبة والمزورة على المحك ومحاسبتهم علنا على ذلك".
وقال:" إزاء هذا الواقع، فإن معضلة الاعلام كبيرة وأساسية ومصيرية"، مضيفاً :" هناك قوة دفع هائلة للصحافة التي تنتهج قول الحقيقة نهجاً واضحاً"، وكذلك هناك دور كبير للتربية كمنهاج أكاديمي يدرب التلاميذ على قول الحقيقة، مشيرا إلى انه اقترح مؤخرا على المجلس التعليمي في كلية محمد بن راشد للإعلام بالجامعة الامريكية في دبي بوضع مساق خاص لتعليم الطلاب طرق ووسائل لفحص وتمييز الحقيقة من الاكاذيب والواقع من الخيال.
وأضاف:" المجتمع الواعي والمثقف هو مجتمع قوي، ولا خيار لنا الا في التعليم ، فمن خلاله يمكننا ان نحصّن الشباب ضد السم القادم من الانتشار غير المقنن لوسائل التواصل الاجتماعي ومنابر الاعلام التقليدي"، واعتبر علي جابر ان التفكير النقدي هو الجواب الشافي الذي يمتص السموم والأمراض التي تشوّه وسائل التواصل الاجتماعي والتي تضر بأبنائنا، ورأى كذلك أن هناك فرصة تاريخية لما يسمى بالإعلام التقليدي المبني في درجة كبيرة على مبدأ التحقق لاستعادة دوره الريادي ليشكل كلمة الفصل والمصفاة بين ما هو حقيقي وما هو زائف، ويكون العنوان الذي يذهب اليه المسؤول والمواطن للمساعدة على تكوين الرأي أو اتخاذ القرار، ووجه دعوة للقائمين على الإعلام أن يأخذوا بعين الاعتبار التغييرات الهائلة التي تعصف بالعمل الإعلامي، والتعامل مع هذه التغييرات بذكاء وواقعية لإعادة انتاج إعلام راقٍ يعتمد عليه في وطننا العربي.