أول من أمس عقدت محكمة أمن الدولة 15 جلسة علنية في قضايا متعلّقة بالإرهاب، لخمس عشرة قضية، مرتبطة بمشتبه بهم مؤيدين أو ملتحقين بتنظيم داعش وجبهة النصرة.
أصبح الأمر طبيعياً، شبه يومي، أن نقرأ عن قضايا في محكمة أمن الدولة متعلقة بالتطرف والإرهاب، وعلى أكثر من مستوى؛ الالتحاق بتنظيمات بقصد القيام بأعمال إرهابية، والترويج، ومن مستويات مختلفة، فهنالك للمرة الأولى مشتبه بهن من النساء (بالمناسبة أتوقع أن نشهد قضايا أخرى شبيهة)، وأحداث، حتى تأسس مركز خاص للأحداث المرتبطين بالقضايا الإرهابية، وهنالك مستويات علمية واجتماعية مختلفة، ومن مناطق جغرافية عديدة.
بالرغم من تنامي الاهتمام لدى المسؤولين والسياسيين بموضوع مكافحة التطرف وما يسمى "التطرف العنيف"، وبالرغم كذلك من الخطط الحكومية والرسمية وعشرات الندوات والمؤتمرات المعقودة في السياق نفسه، فإنّنا ما نزال في إطار حالة من الضبابية وغياب الوضوح، وربما بعبارة أدق "العمى السياسي" في التعامل مع هذا الملف؛ سواء على صعيد إدراك أبعاده وحجمه بصورة دقيقة أو المسار البديل، أي مكافحته ومواجهته بالاستراتيجيات والديناميكيات المناسبة!
الشرط الرئيس لإنضاج الرؤية الاستراتيجية لمواجهة "الداعشية" والتطرف، يتمثّل في تعريف الظاهرة نفسها، وتحديد حجمها بصورة دقيقة، وأبعادها والمتغيرات الرئيسة المرتبطة بها. بمعنى؛ كم العدد الدقيق لمن انضموا فعلياً إلى تلك التنظيمات؟ ما هو عدد القضايا في محكمة أمن الدولة لمن ينتمون إلى مجموعات وخلايا مرتبطة بهذا الفكر؟ ما هو عدد قضايا المروّجين والمتعاطفين؟ المقارنة بين عدد القضايا حالياً مع القضايا نفسها خلال الأعوام السابقة؟ ما هو مردود تعديل قانون مكافحة الإرهاب والتطرف؛ هل قلّ أم زاد عدد القضايا؟ وكيف نفسّر ذلك؟ ما هو العمر الغالب؟ ما هي المنطقة الجغرافية الغالبة على هذه القضايا؟ ما هي أكثر أدوات ووسائل التجنيد التي اتبعت مع هؤلاء الأفراد؟
ما هي النتائج المترتبة إلى الآن على برنامج الحوار مع المتشددين داخل السجون؟ هل هنالك دراسات علمية لمدى نجاعته ونقاط القوة والضعف فيه؟ هل ثمّة برنامج واضح لمن خرجوا من السجون على خلفية هذه القضايا في عملية إعادة التأهيل؟ ولماذا لم نفكّر في إنشاء مؤسسات مجتمع مدني متخصصة للتعامل معهم ومع العائلات التي ينتمون إليها، حتى لا تنتقل العدوى إلى أفراد آخرين على أسس عائلية أو عشائرية؟
أجزم - من دون أدنى شعور بالتسرع أو المجازفة بالجواب- بأنّنا لا نمتلك إجابات دقيقة صحيحة عن الأسئلة السابقة، بصورة عامة! نعم هنالك معلومات متفرقة ومعطيات متعددة، لكنّها لم تخضع لإطار وصفي منهجي، فضلاً عن التحليل العلمي الإحصائي والنوعي الدقيق، وبالتالي بدهياً طالما أنّنا لا نملك توصيفاً ولا تعريفاً ولا فهماً دقيقاً لأبعاد المشكلة، فإنّ أي حلول وأفكار ومؤتمرات وخطط واستراتيجيات هي كمن يضع علاجاً لمرض من دون تشخيصه!
الطريف في الموضوع أنّ الكل لدينا يتحدث عن الإرهاب والتطرف، وهنالك عشرات المؤسسات المحلية والدولية تموّل مشروعات ودراسات وأبحاث في الإطار نفسه، ومؤسسات رسمية وغير رسمية وجمعيات أصبحت كلها تقوم على ثيمة "مكافحة التطرف"، لكنّنا ندور في دائرة أخرى تماماً، وبدلاً من ذلك أصبحنا أمام ما يمكن تسميته بـ"بيزنس الإرهاب"، أي سوق عمل ينشأ حول هذه المشكلة، من التمويل الأجنبي والمؤتمرات والمتخصصين، وفي نهاية اليوم من دون وجود قاعدة بيانات ومعلومات دقيقة حول الموضوع!
أخطر ما في الأمر أنّنا ننتقل بالتدريج من "الأفراد" إلى "العائلات" في مجال التطرف والإرهاب، مع قصة الأحداث والنساء، بينما لم نستطع حتى اللحظة تقديم رواية أردنية دقيقة عن الموضوع.
الغد