تعجبني دائما مقالات الاستاذ التربوي القدير حسني عايش ، فأقرأها بمجرد ان ألمح اسمه يذيل تلك المقالات ، فهو واسع الثقافة والادراك ، والاهم من كل ذلك متجدد الثقافة ، فهو دائم البحث والتحديث ، ومن القلائل من المثقفين المستنيرين ، الذي لا يقفون عند حدود القوالب الجامدة ، ويمتلك القدرة على الأنسنة الدائمة لثقافته ، والتسلل الى عمق النفس الانسانية ، ليلم بجميع مكنوناتها ، وهذا البعد الانساني يميز مقالاته بجاذبية خاصة .
في لقاء تلفزيوني اخباري اجري معه الاسبوع الماضي ، لفت انتباهي فقرة ، تحدث فيها الاستاذ حسني عايش عن الامية وتنوعها ، فهناك الامية الاقتصادية التي سببت للكثيرين خسائر فادحة في اسواق البورصة ، وأمية ثقافية ، وأمية تعليمية ، وأمية سياسية ... الخ .
اعجبني عنوان هذا الطرح الجديد لمفهوم الأمية ، التي يظنها الكثيرون تعليمية فقط ، فهو حقيقة واقعة نعيشها في الاردن بشكل خاص ، وعلى مستوى الوطن العربي بشكل عام .
فما عانى منه الاردنيون في الاسابيع الماضية ، نتيجة تلاشي شركات البورصة ، التي ادخروا فيها تحويشة العمر ، طمعا بربح كبير وسريع وغير معقول ، وما كانوا ليقعوا بمثل هذا المطب ، لو التزموا بالبديهيات التي تشبعوا بها منذ صغرهم ، بما تدخره هذه البديهيات من أمثال شعبية ، تحذر من مثل هذ المطبات ، خاصة ان معظم المدخرين في هذه الشركات ، هم فلاحون قرويون او من اصول قروية ، لكانوا قد اراحوا انفسهم من معاناة الندم ، اما ان نصدق باننا في زمن اللامعقول بكل شيء ، فهذا ضرب من الأمية الاقتصادية اللامعقولة .
اما الأمية السياسية ، فهي الأكثر تأثيرا في حياتنا ، لما تتميز به منطقتنا من احداث وتقلبات سياسية ، تمس نواحي حياتنا الحاضرة والمستقبلية ، وشكلت للمواطنين ثقافات سياسية متنوعة ، افرزت اما مواقف سياسية ساذجة او متطرفة ، رغم ان الأولى وادعة ومسالمة ، ولا مجال للمقارنة بين نتائج كلتيهما .
فالثقافة السياسية الساذجة ، لها تأثير كبير على كل امور حياتنا ، تأثيرات نفسية من حيث الاحباط ، وزعزعة الثقة بالوطن ، واضعاف الانتماء الوطني ، او من حيث سذاجة الانتماء والولاء ، وعدم قدرته على الصمود ، امام أي هزة تتعرض لمفاهيمه بالنقد والتشكيك .
اما الأمية السياسية التي تولد التطرف ، وقد تؤدي الى العنف كأحد أبرز نتائجها ، فهي امية حاقدة ، تخلق اعداء وهميين ، وتنفخ في بوق خطرهم المزعوم ، وفي بوق ضعفنا عن مواجهتهم ، وفي بوق تواطؤ الانظمة الحاكمة معهم ، وتقنع السذج بان لا سبيل للخلاص من هولاء الأعداء الوهميين ، الا بالعنف ، فهو الحل السحري لمعضلات الامة ، فتساهم هذه الأمية في زعزعة استقرار الوطن ، وفي تدهور الاقتصاد الوطني ، وتفتيت الوحدة الوطنية ، والانكى من ذلك ، انها بغبائها وجهلها تقدم اكبر خدمة لأعداء الوطن ، المتربصين به .
اما الاعداء الحقيقيين ، فانها تشكك دائما في سبل مواجهتهم ، وتدعي امتلاك وسائل الرد الفاعلة ، وغالبا ما يكون الرد واحدا اوحدا ، لا ثاني له ، فكل الوسائل الاخرى هي سير على درب الخيانة والاستسلام ، هذه الأمية قد تتنوع من حيث الخلفية العقائدية لاصحابها ، او من حيث الخلفية الثقافية والتعليمية ، لكن القاسم المشترك بينها ، هو احتكار الحقيقة ورفض الرأي الآخر ، واستخدام العنف لقمعه او التشجيع عليه .
m_nasrawin@yahoo.com