الوظيفة مقبرة فاجتنبوها ما استطعتم.
عبد الله بني عيسى
19-04-2017 11:04 PM
ما إن يتخرج الشاب من الجامعة، حتى ينطلق كالسهم، إلى ديوان الخدمة المدنية لتقديم طلب توظيف في المؤسسات الحكومية. ويبدأ بتحشيد كل طاقات عائلته وعشيرته للبحث عن نائب او وزير أو مدير دائرة، وكل من "له معارف بعمان" أو "واصل عند الدولة" أو "كلمته ما تنزل على الأرض"، للتوسط له من أجل توظيفه، فتمضي الأيام والاشهر وتضيع أهم سنوات العمر، وهو بين الواسطات وإعلانات الصحف ودورات مندوبي المبيعات، ودروس تقوية اللغة الإنجليزية، ومهارات استخدام الحاسوب.. ولكن دون فائدة.
مسكين فقد خدعته الثقافة المجتمعية البائسة، وأقنعته بان الوظيفة أمان، وبأنها وجاهة، وأنها مبلغ الطموح، ومن دونها، لا زواج ولا بيت ولا أسرة ولا مستقبل. لكنه لا يتذكر ولا يهتم بالحقيقة الماثلة امام عينيه من خلال الاف الشواهد، وهي أن الموظف يبدأ فقيرا وينتهي فقيرا. ومع ذلك يأبى إلا ان يكون مجرد "برغي" في ماكينة، لا مالكا لها، مستهلكا للسلعة لا منتجا لها.
أعرف أن الصعوبات كبيرة وأن الطموح والحماس عند الشباب محاطان بالأسلاك الشائكة، وأن القوانين لا تساعدهم في امتلاك مشاريعهم الخاصة، ومؤسسات الدولة تتركهم يصارعون وحدهم صعوبات التمويل والإدارة والتسويق، غير أن مجابهة تلك الصعوبات أكثر جدوى بكثير من البقاء دون عمل.
غالبية الأردنيين يفضلون الدخل المنخفض المقرون بالأمان الوظيفي، على الدخل المرتفع مع غياب الأمان الوظيفي، ومرد ذلك الثقافة التربوية والاجتماعية، التي تعزز من قيمة الوظيفة وتحطّ من بقية مسارات الحياة والعمل، رغم انها منتجة وأكثر جدوى.
وللإنصاف هي ليست ثقافة أردنية خالصة، بل عالمية أجاد في تشريحها روبرت كيوساكي مؤلف كتاب أبي الغني أبي الفقير، حين يقول "ما الوظيفة المرموقة الآمنة إلا وهم لا وجود له، زرعه آباؤنا في عقولنا عن غير وعي، ظنا منهم بأن الوظيفة هي الملاذ الآمن والحصن المنيع ضد مفاجآت الزمان، وهم ورثوه بدورهم من آبائهم". غير أن نتائج هذه الثقافة في الأردن، البلد محدود الموارد والإمكانات، وخيمة للغاية، وبصورة تفوق كثيرا غيرها من الدول.
ومن تلك النتائج أن أصبح لدينا نحو 220 ألف موظف في مؤسسات الدولة، يشكلون نحو 17 % من حجم القوى العاملة في المملكة، تلتهم رواتبهم نصف الميزانية، ويتكدس 50 الفا منهم في بلديات المملكة، حيث الواسطات تأخذ شكل المصالح المتبادلة على إيقاع الانتخابات، والعلاقات الأسرية والعشائرية. في حين لدينا بطالة قدرها البنك الدولي في آخر نشرة له بـ 15.3 في المائة، وهي بذلك تصل إلى مستويات تاريخية.
في المقابل فإن بلدا مثل سنغافورة، شعبها يعد اهم موارده، وصاحب واحد من أعلى معدلات الدخول الفردية في العالم، وأصبح قبلة للمستثمرين الدوليين، فإن العاملين في الإدارة الحكومية، لا يتعدى عددهم 40 ألفا. يشكلون فقط حوالي 2% من حجم القوى العاملة في البلد. وتجد الحكومة صعوبة في العثور على موظفين في مؤسساتها رغم الحوافز الكبيرة، وذلك نظرا لوجود بدائل تدر دخولا كبيرة ومجالات الابداع والابتكار فيها عريضة وواسعة.
الهوس الأردني بالوظيفة جعل من الشواغر المحدودة المتوفرة في مؤسسات الدولة، عبارة عن غنائم توزع على الأقارب والمؤيدين والأتباع، حتى صارت عنوانا لأزمة فساد كبرى انخرط الجميع –بمن فيهم النواب- في تفاصيلها، وتورطت فيها جهات حكومية، لا تتورع عن تعيين أبناء المحاسيب والمسؤولين في وظائف على حساب بقية المواطنين.
هوس الوظائف (الحكومية بالذات) له نتائج مدمرة للاقتصاد الوطني كما للمستوى المعيشي للأفراد.. فهي المسؤولة عن رفع نسب البطالة، وقتل الأفكار الرائدة والمبتكرة، والحد من المشاريع، خصوصا الصغيرة والمتوسطة، وتضخم ميزانية الرواتب على حساب المشاريع الخدمية، وانتاج مجتمعات كسولة لا تهتم بالإنتاج ولا تقدر قيمته.
ثمة مفارقة تظهر هوس الأردنيين بالوظائف، يمكن رصدها في بلاد الاغتراب، فحين يقرر الأردني السفر إلى دول الخليج مثلا، يبدأ منذ وصوله بالبحث عن وظيفة، أي وظيفة، في المقابل حين يصل اللبناني –على سبيل المثال- فيذهب في اليوم التالي إلى البنك للبحث عن تمويل لمشروع تجاري. وبعد 10 سنوات تجد الأردني ما يزال في وظيفته يصارع ظروف المعيشة وتكاليفها المرتفعة، واللبناني وقد غدا تاجرا وصاحب دخل مرتفع.
أختم بقصة شاب قدم إلى إمارة أبوظبي في عام 1973 ولم يكن بحوزته سوى 8 دولارات. عمل مندوب مبيعات أدوية ومستحضرات تجميل، لكنه اكتشف أن الوظيفة ستبقيه فقيرا إلى الأبد فقرر الدخول في عالم التجارة.
بعد عامين فقط، كان الدكتور (بي آر شيتي) القادم من الهند يمتلك واحدة من أكبر شبكات الرعاية الصحية الخاصة في دولة الإمارات في عام 1975. ولاحقا قرر تنويع أعماله من خلال إنشاء مركز الإمارات للصرافة (UAE Exchange)، التي تعد واحدة من أكبر الشركات العاملة في مجال خدمات تحويل الأموال. إذ بلغت التحويلات المالية للشركة في عام 2014 مبلغ 26 مليار دولار. ثم غامر في مجال تصنيع المستحضرات الصيدلانية بإنشاء مصنع حديث في أبوظبي، "مصنع "نيوفارما" الذي قدرت قيمته عام 2015 بنحو 2 مليار دولار.
الوظيفة مقبرة فاجتنبوها ما استطعتم، وانفضوا أيديكم من الحكومة، فوظائفها للمحاسيب وأبناء المسؤولين.