يحيل المرتادون الفضاءَ المحيط بفنادق البحر الميت في نهاية العطلة الأسبوعية إلى مكرهة صحية وجحيم يؤذي أنظار السياح ويقلق راحة سكان المنازل المطلّة على الرصيف الملاصق لمنطقة الفنادق وغالبيتها من فئة الخمس نجوم.
عملية غزو هذه المنطقة الوادعة تبدأ عصر الخميس وتنتهي مساء السبت، تاركة خلفها أكواما من القاذورات، بما يدمر البيئة ويلطخ سمعة الأردن الناصعة في الخارج.
آلأف الأجساد البشرية تفترش الرصيف وتتمدد صوب أطراف الشارع العريض بعد انتهاء وصلات الغناء على وقع الموسيقى الصاخبة وحلقات الدبكة والرقص. وتتداخل جلسات تدخين النرجيلة وشواء لحوم مع صخب الأطفال وسط ضوضاء متداخلة تصم الآذان حتى فجر اليوم التالي. كل ذلك يحدث على مقربة من المركز الأمني.
لدى المغادرة، يترك بعض المرتادين الزبالة؛ أكياس بلاستيك، أعقاب سجائر وعلب دخان، أكياس (التشيبس) وشظايا زجاج من بقايا قوارير المشروبات الغازية والكحولية، وسط شح حاويات تجميع القمامة.
ومع أول (زوبعة)، تتطاير الزبالة وأكياس البلاستيك السوداء لتملأ فضاء هذه المنطقة المكشوفة وتحط في غالبيتها على طرف الشاطئ، فتحيله إلى منطقة موبوءة.
بعض المرتادين لا يتوانون عن كسر أنابيب مياه بجوار جلساتهم الصاخبة، فيستخدمون سكاكين وحجارة لإخراج المياه، ويستحمون أو يستخدمون جزءا من المياه المهدورة لتحضير القهوة أو لجلي الصحون ومناقل الفحم.
وفي غياب مرافق صحية مصانة، تتحول المنطقة المحيطة بهذا الرصيف والساحات المكشوفة بين الفنادق إلى مكرهة صحية. ومع الوقت تتخمر رائحة البول والفضلات البشرية وتستقطب أسراب الذباب، الذي يغزو سكان الأحياء المجاورة ويستوطنها.
نهار السبت تتقدم جحافل عمال الوطن لإنقاذ ما يمكن تنظيفه في هذه المنطقة المنكوبة. ثم يتجدد الغزو في الخميس اللاحق. يتمنى هؤلاء العمّال أن يشعر المرتادون بمعاناتهم الأسبوعية في تجميع الزبالة والقاذورات والقوارير. وكذلك انهماكهم في تطهير الساحل من أكياس الزبالة التي يحملها الهواء ويعيدها مع الموج إلى شواطئ الفنادق. ظهرهم كسر من عدم مبالاة الناس.
لعنة مرتادي البحر الميت تتواصل منذ سنوات دون حل.
طبعا في البال استثناء لهذه القاعدة، حين أحيلت هذه المنطقة إلى "جنّة على الأرض" قبيل وأثناء استضافة القمة العربية أواخر آذار(مارس) الماضي. قبل أن تغلق تلك المنطقة لأسبوعين، أطلقت فرق مكافحة القوارض والذباب حملات رش مكثفة للقضاء على الذباب المستوطن والذي يعكّر راحة السياح والسكان. تزامنت تلك الحملة مع معالجة مشكلة انتشار الذباب من جذورها، عبر فرض مخالفات شديدة بحق من ينقل أو يستخدم أسمدة بدائية غير معالجة. ونصبت لافتة أمام أحد الفنادق تحذر من فرض غرامة 20 دينارا على كل من يلقي الفضلات.
ويبدو أن آليات الرقابة تراجعت في اليوم التالي للقمة؛ و"كأنك يا أبو زيد ما غزيت"!
صرفت آلاف الدنانير لإعادة تأهيل وتعبيد وتزيين أطراف الشوارع وجنباتها، ما أثلج صدور سكان المنطقة الغورية، الذين شعروا بأن حكومتهم تعيرهم اهتماما بعد سنوات من الشكوى، التي يعدّونها "لغير الله مذلة". أعيد تأهيل الجزر الوسطية وقلّمت الأشجار على جوانب الطرقات. أزيلت الأكشاك والمعرشات. تكثفت أعمال الصيانة وزراعة الأشجار ورص الورود ليتباهى المسؤولون بالحلّة الجميلة، التي اكتستها هذه المنطقة مرحليا بعيدا عن اللعنة الأسبوعية دون أن يفكروا ولو للحظة أنهم يخدعون أنفسهم وشعبهم وزوارهم.
سكان المنطقة – الذين يشكون منذ سنوات من نقص الخدمات – يتمنون لو تحولت منطقة البحر الميت الى مكان دائم لاستضافة القمم العربية لكثرة الاهتمام الرسمي والأمني خلال تلك الأيام. ويأملون أيضا في تنظيم زيارات عطلة نهاية الأسبوع وفرض رقابة صارمة على المخالفين.
المشكلة المزمنة عادت في أول (ويك أند) بعد انتهاء أعمال القمّة، التي تزامنت مع دفء الأجواء. وهكذا هجم الأردنيون، وتحديدا سكان عمان، على منطقة شاطئ البحر الميت، وأعاثوا فيها توسيخا وتخريبا خصوصا في منطقة الفنادق، فتراجع الحلم اللحظي أمام الكابوس الدائم.
فما ذنب السياح الذين جاءوا من كل حدب وصوب للاستجمام في أخفض بقعة على سطح البسيطة، إما للتبرك في الأماكن المقدسة أو للعلاج في مياه البحر المعدنية شديدة الملوحة المعروفة بخواصها الاستشفائية؟ لماذا عليهم أن يدفعوا مالا لكي يعيشوا تجربة "العار" المحيق بمياه البحر وشاطئه، ثم يحرموا من النوم ليلتين متتاليتين بسبب الجوار الصاخب.
العديد من السياح اشتكوا من أنهم لن يعودوا إلى هذه البقعة ولو "ببلاش". قالوا إنهم لن ينصحوا أيا من أقربائهم وأصدقائهم بزيارة البحر الميت. وتساءلوا عن الأسباب التي تدفع أردنيين إلى مثل هذه الممارسات غير الحضارية بما يلحق الأذى ويؤذي سمعة بلادهم، كما يشوه جمال الطبيعة وسكون منطقة البحر الميت.
يحدث ذلك بينما تجهد وزارة السياحة وهيئة تنشيط السياحة لإعادة إحياء الحركة السياحية التي تأثرت كثيرا بتداعيات الوضع في الإقليم. يبدو أن مرتادي البحر الميت لا يدركون أن السياح مصدر عملة صعبة لقطاع السياحة، الذي يرفد الخزينة ويوفّر فرص عمل للمواطنين، بينما لم تدفع الوفود العربية الرسمية قرشا واحدا ثمن المبيت في هذه الفنادق أثناء القمة.
القائمون على الفنادق يعجزون عن حماية الأرصفة والشوارع من بعض مرتادي البحر الميت، ومنهم من يقترب من منطقة الفنادق بسبب أضواء الفنادق والشارع الرئيسي مقارنة مع البقع المعتمة. فسلطتهم تنحصر في المرافق التابعة لفنادقهم. وحين يستنجدون بالشرطة في (الويك اند) استجابة لشكاوى نزلاء في الفنادق، تحضر دوريات وتطلب من المتطفلين على حواف الفنادق الانتقال إلى منطقة ليست بعيدة. والمشكلة تتكرر دون نهاية لها مع كلمة "امسحها بهالذقن".
أسباب هذه اللعنه عديدة. لكن الواضح أن الجميع شركاء في إقلاق راحة السياح، بما يعكس تدهور المنظومة القيمية، توطن الأنانية المفرطة وضعف الانتماء للوطن.
تؤشر ممارسات مواطنين إلى أن مفهوم النظافة يبدأ وينتهي داخل حرم منازلهم وعند أسوار بيوتهم، باعتبارها نطاق بلدهم وليس الأردن ككل. فحدود الانتماء إلى البلد تنتهي عند حدود شقته أو فيلته.
سألت بعض المرتادين - بخاصة ذوي الدخل المحدود- ما العمل لإنهاء هذه المشكلة؟ فكان ردّهم وجود شواطئ عامة مجانية مثل المجهزة في سلطة العقبة الاقتصادية الخاصة. ويمكن بناء حمّامات عامة وإحالة عطاءات لإبقائها نظيفة. وتؤكد غالبيتهم أنهم لا يستطيعون دفع خمسة دنانير عن كل فرد لدخول شاطئ البحر الميت السياحي، الذي يسمح بإدخال المناقل والأراجيل ويوفر حمامات وخدمات أخرى. المسؤولون قادرين بالطبع على رصد بعض المخصصات من الضرائب التي يجمعونها من الناس لتوفير مناطق عامة لتنزه الناس، مجهزة بأساسيات تشجع أصحاب الدخل المتدني والمتوسط على الاستمتاع بجمال البحر الميت. فنحن من أكثر الشعوب التي تدفع ضرائب مباشرة وغير مباشرة.
نجحوا في امتحان تنظيم القمة العربية ويمكن أن ينجحوا في تحويل المنطقة إلى آية من الجمال لو احترموا شعبهم وقسمهم الدستوري.
بعد توفير الحمامات العامة وحاويات الزبالة، يجب فرض القانون وإنزال عقوبات صارمة بحق ملوثي البيئة في منطقة البحر الميت، على غرار حدائق الحسين مثلا أو حديقة غمدان على طريق المطار. ثم يأتي دور المدرسة والأهل في تنوير أجيال المستقبل وتحفيزها على احترام البيئة وحب الوطن عبر الحفاظ على النظافة العامة.
إذا استطعنا مواجهة لعنة البحر الميت يمكننا معالجة علاقة المواطن بالطبيعة وبالمناطق العامة، في انتظار استكمال مشروع كورنيش البحر الميت عام 2018، بكلفة تتراوح بين 23-40 مليون دينار.
في هذه الأثناء على السياح والسكان التعايش مع لعنة البحر الميت حال تعايشهم مع انعدام النظافة في مرافقنا الحيوية؛ كالمستشفيات الحكومية والوزارات والمؤسسات الرسمية والمواقع السياحية وبعض المطارات. وفي صلب هذه العلاقة، مشكلتنا مع المرافق الصحية في جميع ما ذكر ومع النظافة في الفضاء العام والتي تعكس القصة الأكبر عن المسؤولية الذاتية للمواطنين وقيمهم وعلاقتهم بالدولة كما علاقة المسؤولين بالمواطنين.
الغد