إيليا نقل: ترك الجامعة الأميركية وتفرغ في "سوق السكر"
24-11-2008 09:18 PM
ابن سوق السكر الذي تابع تطور المدينة، منذ أن دخلها في عام النكبة. أزمنة عمان حاضرة في حياة الرجل الذي أحب المدينة، وعمل بإخلاص قاده إلى أن يتبوأ اليوم قائمة ابرز المرشحين من رجال الإعمال لنيل جائزة رائد الأعمال للشرق الأوسط للعام 2008.
دخل إيليا نقل عمان في عام 1948 قادما إليها من بيروت، بعد ان كانت الأسرة هُجرت من الرملة وجاءت إلى السلط، ثم اتخذت من منطقة المحطة مقراً لها. ليبدأ بعدها رحلة عمل شاق، وضعته اليوم على رأس ابرز وأهم المجموعات الاستثمارية في الأردن والشرق الأوسط، والتي توظف زهاء 6000 موظف يصر نقل على متابعة تفاصيل حياتهم والتواصل معهم وتدريس أبنائهم، مبرراً ذلك بقوله: "أساعدهم بالتعليم لأني حرمت من إتمام دراستي".
ولد نقل في الرملة في الخامس والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) 1928 لأسرة بسيطة الحال، لكنه شغف بالعلم فدرس الابتدائية في مدرسة CMS، ثم انتقل إلى مدرسة العامرية، وكان من أساتذته في تلك المرحلة عمر القيمري وعلي صبري أستاذ اللغة العربية، وكان من زملائه إبراهيم الصعيدي وواصف الطاهر وثابت الطاهر الذي كان يسبقه صفين.
يؤكد الرجل انه كان متفوقاً ويحب المطالعة، ويواظب على الدراسة، ولعل ذلك ما جعله يتفوق في امتحان "مترك" فلسطين. ومع انه كان من المفروض ان يذهب بعد المترك للدراسة في الكلية العربية في القدس، وهي التي كانت تعد مطمحاً وأمنية لأبناء جيله، إلا أنه حرم من الترشيح "بسبب عدم الحياد"، او لأجل المحسوبية في الاختيار كما يقول.
"أولى حرقات القلب"، التي مايزال يذكرها بمرارة هي أن من هو أدنى منه درجة حظي بالدراسة في الكلية العربية في القدس. ويقول "كانت أولى صدمات حياتي".
الصفان الثالث والرابع الثانوي أتمهما في المدرسة العامرية، ومع انه تأخر في الالتحاق، لكنه يؤكد على انه تجاوز فوات فرصة الدراسة في الكلية العربية وتفوق مرة أخرى.
وفي المدرسة العامرية زامله وليد البيبي وزين الدين سرحان وأكرم الكيالي، أما الأساتذة فيذكر منهم جميل بنورة الذي يرى انه لمع عقله في الفيزياء، وأثر فيه، وكان يطلب إليه ترجمة الأسئلة "ما أزال اقدره حتى اليوم، فقد كان فائضا في الذكاء".
في نيسان (ابريل) 1948 غادر فلسطين إلى بيروت لكي يمتحن المترك البريطاني الذي أُخبر بأنه لن يكون باستطاعته تقديمه في القدس، وفي الطريق مر بالسلط، ثم نام ليلة في ضيافة أهل اربد، وكان حصل على مساعدة من ابن خالته خضر نينو الذي وفر له أجرة السيارة إلى بيروت.
في بيروت استقبله أخوه فرح الذي سبقه هناك، وكانت إقامته بين نيسان وأيلول. وخلال تلك الفترة أدى الامتحان ونجح وجهد للحصول على مقعد في الجامعة الأميركية، وقد تم ذلك بمساعدة من قسطنطين زريق الذي كان يميل إلى مساعدة الطلبة الفلسطينيين.
لكن القبول الذي حصل عليه لم يمكنه من البقاء في بيروت لأكثر من اسبوع قضاه وهو يدخل كل يوم إلى قسم ويرى أسلوب المحاضرات. وما أن أتم جولته، حتى حسم أمره بالعودة إلى عمان بسبب عدم توافر المال والطعام، لكنها كانت حرقة قلب أخرى على العلم.
آنذاك كانت عمان تنمو بتسارع كبير، لكن العودة إليها تتطلب فيزا دخول، فحاول لكن دونما جدوى، فما كان منه إلا المغامرة وهو يصف ذلك بقوله: "شوفير التكسي الذي حملني إلى عمان قال لي انزل قبل الحدود بخمسمائة متر وامشي 500 خطوة ثم انحرف والتقي بنا على الخط، وفعلاً مشيت وكنت احمل موس وكانت الدنيا ليل.. وعبرت".
عند العودة وجد "أبو غسان" أن الأسرة استأجرت "اوضة" في منطقة المحطة، كان ينام فيها أكثر من عشرة أشخاص أحيانا، آنذاك أصر على أخيه سمير الذي وجد وظيفة في مطار ماركا، ان يذهب إلى كلية الحسين ليتم دراسته. برغم حاجة الأسرة للأجرة المميزة التي حصل عليها سمير.
يتذكر نقل تفاصيل العام 1948، فيقول "جاء مطر هائل في كانون الاول. كنا نلبس (الاواعي) كلها. لم نكن اعتدنا بعد على برد عمان".
لكن عالم عمان وقتذاك كان بسيطاً، عمل نقل لدى شركة "قطان والعملة"، وكان أخوه جورج سبقه في العمل لدى توفيق قطان. ومع انه لا ينكر دور توفيق برعايته، إلا انه يرى ان علاقته مع والد توفيق الحاج متيا قطان كانت "مميزة"، وأثرت في تقدمه.
موقع الشركة كان في شارع الرضا، وكانت المدة التي عمل بها لدى القطان والعملة ثلاثة أعوام. وكان أول راتب تقاضاه الرجل اثني عشر دينارا، رأى أنها الشيء الذي لم يكن يحلم به قبل ذلك.
السلوك القويم والصدق والذكاء والمغامرة جميعها صفات يحتاجها التاجر الناجح، فذكاؤه جعله يحذق في الصنعة ويفكر بالتوسع. فالسنوات الثلاث في تجارة المواد الغذائية والتي كان من أصحاب "الكار" فيها جعلت الرجل يهتم بعلم المحاسبة، فراسل مدرسة جلاسكو للمحاسبة. وتفقه في أصول البيع ومسك الدفاتر أثناء عمله، وهذا الطموح والمثابرة مكناه من قلب توفيق قطان الذي ساعده ليحصل على رخصة استيراد.
توسط قطان له لدى نظام الشرابي الذي كان آنذاك (1950-1951) مديراً لدائرة الاستيراد والتصدير. يقول نقل "كان نظام واصل، وقد اعترض على منحي رخصة "كوتا", ولكنه نصحني بأن أسجل شركة ومن خلالها يمكن الحصول على مخصصات استيراد"، وفعلاً أنجز نقل ما طلب منه.
في سوق السكر بدأ العمل، استأجر محلاً كان يملكه سعيد باشا المفتي، وكان معه في السوق رفاق لا ينساهم: سعيد الفرماوي وجورج خنوف.
يصف تلك المرحلة بقوله: "وضعنا في المحل طاولة ومكتبا، وتعاونت مع تجار القدس أيام الوحدة بين الضفتين، مقابل نسبة لهم وكانت 10%"، مؤكدا أن عمله بدأ بالتطور، وبدأت علاقاته مع البنوك، ما ساعده على البحث الدائم والتطوير، حتى وصل بالمجموعة الى ما هي عليه الآن.
الرجل الذي افقده منافسوه في احد عطاءات تزويد الجيش بالمواد الغذائية العام 1959 النصيب الأكبر من سيولته النقدية، ما لبث ان عاد من جديد، فهو يقول: "كلما هرب الناس في الأزمات، كنت ازداد رسوخاً بهذا البلد وحبه والحرص عليه".
في سوق السكر، كانت التجارة تختصر حراك المدينة، وتشهد على تنوعها. عائلات امتهنت التجارة: الشعراوي وأبو عيشة والكيالي وبدير وغيرها. هذه الأسماء كانت تتنافس، لكنها كانت تمتلك مبادئ بحسب ما يقول نقل "كان سوق السكر عالمنا وعمان بلدنا والأردن بلد الكل".
التجارة كان من لزومياتها السفر، وكانت أولى السفرات له العام 1955 مع خضر نينو منذ رحلة بيروت الأولى لأداء المترك البريطاني العام 1948. واصطحبا معهما خضر الجبشة الذي كان يعمل في صناعة الشوكلاته بالقدس، وكان نقل يبيعه اللوز اللازم لها، وتعهد للجبشة بأن لا ينافسه في صناعة الشوكلاته، بعد أن رفض عرضا من الجبشه بإقامة مصنع مشترك ورفض نقل فتوجس الجبشة من رفض نقل. وهنا اقسم له نقل ان لا ينافسه في صنعته.
محطة السفر الأولى الخارجية كانت ايطاليا، وقد زار نقل الشركات التي كان يتعامل معها في لندن، وهناك شاهد كيف يتم إحضار الورق وتقطيعه، ومن ثم تصنيعه كورق صحي "مناديل"، ووجد ان استيراد المواد الخام من أوروبا ومن ثم مجيئها إلى لندن واستيرادها إلى عمان أمر مكلف، لذا سعى إلى الحصول على آلة التقطيع.
بين عامي 1955 - 1958 وجد نقل ضالته في شركة ألمانية اسمها Hobema وكان صاحب الشركة من أعضاء مجلس بلدي مدينة دوزلدورف، يقول "طلبت منه ماكينة استوردتها بمبلغ يقارب 1700 دولار، وأحضرتها إلى عمان لسوق السكر، وصارت العائلة تعمل عليها".
الماكنة التي كانت محل أنظار الناس، تم نقلها إلى أكثر من مكان، فهي التي ولدت ماركة "فاين" الشهيرة وتحولت الماكنة إلى مصنع في العام 1962 بدعم من صندوق التنمية (بنك الإنماء الصناعي فيما بعد) وافتتح الرجل مصنعاً في لبنان أيضا أوائل السبعينيات، وتوالى صعوده في عالم التجارة والصناعة حتى اليوم.
انجازات إيليا نقل المتعددة التي جمعت صنائع وأفكارا وتأسيس جمعية الثقافة والتعليم الارثوذكسية وإطلاق مشاريع التعليم غير الربحية، اكتست برؤية عميقة للعمل الخيري أيضا، الذي تمارسه مجموعته من خلال ابتعاثها للطلبة المتفوقين للدراسة في الخارج، ودعم مشاريع عمل إنسانية في الأردن مثل (تكية ام علي) ومشروع التغذية المدرسية ومشروع تبني لواء الكورة لإحداث تنمية مستدامة لدى سكانه، وغيرها من المشاريع.
وهو يرى إن "أي استثمار لا يحمل قيمة مضافة للأردن يجب عدم الترحيب به".
عائلة الرجل بسيطة: غسان الأكبر هو نائب رئيس هيئة المديرين لمجموعة نقل، ومروان رئيس تنفيذي لشركة نقل للسيارات، أما البنات لينا ورندا فلكل منهما طريقها؛ واحدة تحب الفن وأخرى تبنى أسرتها مع أولادها.
أبو غسان يؤكد أن ظروف الحياة لم تتسع للحب في الرملة، أما حبه لشريكة عمره سميرة رزق، فيقول عنه "الجد في الحياة والظروف الصعبة لم تمكنا من ذلك قبل الزواج، أما اليوم فهي لا تشاركني العمل بقدر ما تمدني بالقوة اللازمة له".
يستمع نقل إلى محمد عبدالوهاب وفريد الأطرش وفيروز وأسمهان، وهو وإن كان قضى غالبية وقته شابا في سوق السكر، إلا انه لم يألف جلوس المقاهي, وحين سألناه عن السبب يقول: "كنا مشغولين بالتجارة، كنا نكاد نمسك الهواء ونحوله إلى فرص عمل".
عالم الرجل مليء بالأحداث، فهو شاهد على قصة بناء الوطن الذي يرى أن عطاءه فيه لا ينضب، وانه أرسى فيه قيمة مضافة ورأسمال بشريا وثقة أهلته لأن يكون أول الحاصلين في عهد الملك عبدالله الثاني على وسام الحسين للعطاء المتميز.
(عن الغد)
Mohannad.almubiadin@alghad.jo