(1)
دخل البيت منهكا .. يعلو وجهه شحوب ، وسياط شمس آب اللهاب قد أحرقت ما تبقى من لون سحنته القديم ، ألقى بمجموعة من الأوراق فوق الطاولة وأشعل سيجارة على عجل ، احمرت جمرة السيجارة آخذة نفس لون عينيه المتوهجتين ، زفر زفرة أو زفرتين ثم خلع حذاءه وألقى به إلى ركن الغرفة البعيد ، لاعنا الدنيا وأهلها وحظه العاثر .....
- طمن يا أبا مهدي ، هل توصلتم إلى شيء ؟؟
- طمن !! لا تحلمي بالطمأنينة بعد هذا اليوم .. لقد اختفى مثل جني ماكر ، لم نجن من ورائه غير الخسارة والإفلاس .
- وماذا يقول أهله ؟ والشرطة ألا تعرف عنه شيئا ؟
- أحسبكِ تظنينه غبيا ، يترك وراءه أثرا يقودنا إليه . لقد مضى بأحلامنا ورحل .
- أحلامنا يا أبا مهدي .. اييه .. لطالما أوقدت لنا شموعا وسقيت لنا آمالا ، يبدو أن الآمال لا تتحقق بهذا السهولة .
- بل يبدو أن الآمال تنفر منا وتكره لقاءنا ، إنها تعاقبنا أشد العقاب لمجرد أننا تجرأنا على لمسها من بعيد .
- إذن قم وافعل شيئا ، ألست الرجل المجرب الخبير بأمور الحياة ؟ هل تركت ظهرك مكشوفا إلى هذا الحد ؟ لقد أخذت قرضا من البنك يستهلك قسطه الشهري معظم راتبك ، ثم أقنعتني ببيع مصاغي الذهبي كله ، واستغنيت عن تحويشة العمر فألقيتها بين يديه . ماذا أنت فاعل الآن ؟ رسوم الجامعة لمهدي ستستحق بعد أيام قليلة ، ورمضان بالأبواب ، ومصاريف البيت والأولاد لا ترحم .....
- كفاني شقاء بالله عليك ، انك تزيدين همومي وتلقين ثقلا فوق رأسي بكلامكِ هذا . لقد وقع الناس كلهم في نفس الحفرة التي وقعنا فيها ، وقادتهم طموحاتهم المجنونة إلى شر نتيجة .
- والعمل ؟؟؟
- العمل أن ننتظر فرج الله ، فهو لن يترك عباده .
يدخل مهدي الغرفة في هذه اللحظة ويقول :
- لن يترك عباده .. هكذا نحن دائما يا أبي نستجلب المصائب إلى أنفسنا ثم نطلب من الله أن يخرجنا منها ، أين كانت عقولنا التي وهبنا الله إياها يوم انطلت علينا هذه الحيل ؟ كيف نصدق أن السماء ستمطر ذهبا وفضة ونحن جالسون في بيوتنا ؟
- لا تتجرأ على أبيك يا ولد .
- دعيه يا أم مهدي فهو يتكلم بروح الشباب الذي لم يجرب المسؤولية بعد . ستتزوج في المستقبل يا مهدي ، وسوف تثقل كاهلك المسؤوليات والطلبات ، ستمر بك لحظات ضعف ويأس ، وتذهب إلى فلان وعلان وتطرق أبواب البنوك باحثا عن قرض يمكنك من أداء واجباتك . ستعرف ما معنى أن تعجز عن زرع السعادة في قلوب أطفالك وتحاسب نفسك ألف مرة على نظرات عيونهم مشتهية ما هو فوق طاقتك . سيعضك الغلاء بنابه وترتفع الأسعار ، الطعام .. المحروقات .. الفواتير .. الأجور ، فتفيض تعاستك ويزداد حرمانهم . ستعلم حينها أن أحدا في هذه الدنيا لا يعبأ بك وببيتك ، لا الأقارب ولا الجيران ولا الأصدقاء ولا الحكومة ، الكل يجري وراء مصلحته الخاصة ، عندها سوف تتعلق بأي حلم يعرض لك وستجري وراءه بكل طاقتك ، حتى لو كان داخلك يعلم أنه حلم كاذب .
- ولكن ثمة عقل يحكم مسيرتنا في الحياة ويمكننا من التعايش مع الصعاب وترويض الأحلام إن شطت وبغت على المعقول ، ثم إننا متدينون ومتعلمون يا أبي ، وفي العلم والدين ما يعصم الإنسان من شر نفسه وشر الحياة من حوله .
- ربما نكون كذلك ، ولكن شهوات الإنسان تطغى أحيانا حتى على علمه وتدينه ، خصوصا إذا عانى الحرمان في سابق حياته ، أو انزلق في المغريات والاستهلاك ..
- ها أنت قلتها ، المغريات والاستهلاك ، نجاري المجتمع فنلقي أذنا لهذا وذاك ، ونقرر بملء إرادتنا أن يكون مثلهم ، فقاعة صابون تنطوي على فراغ في داخلها برغم بريقها الخارجي . هل المسألة مجرد مسؤولية ورغبات ملحة ؟ ألسنا ننافس الآخرين في مظاهرهم يا أبي ؟ ألا ننظر بعين فارغة إلى سيارة فلان وأثاث بيت علان ، والى الجارة التي عندها في البيت خادمتان ترطنان بكلام لا نفهمه . لقد سمعتك قبل قليل تقول لأمي أن الأحلام تعاقبنا لمجرد لمسنا إياها من بعيد ، هذا صحيح يا أبي ، فهي لا تكتفي بأن تمتنع عن التحقق ، بل إنها تعاقبنا وتتركنا في حال نزدري فيها أنفسنا وننظر إلى ذواتنا بعين اللوم والتقريع . هل تعلم لماذا ؟ لأنها ليست أحلام الممكن ، ولا رغبات الستر ، إنها سلم من مائة درجة أردنا أن نقفز فوقه مرة واحدة ، بغير إعداد صحيح أو حساب لما تنطوي عليه المغامرة .
- لقد أثقلت على أبيك وعليَّ يا ولد .
- هذا لأنني مكتو بالنار مثلكما تماما . لن أسجل في الجامعة هذا الفصل ، يمكنني تأجيل الدراسة فصلا أو فصلين ، وسأبحث عن عمل مؤقت ، ريثما نجد حلا يخرجنا من هذا المأزق .
- لن تفعل ذلك حتى لو اضطررت إلى بيع ثيابي من أجلك .
- سامحني يا أبي لكنني لن أقف متفرجا عليك في هذه المحنة .
- لا تظن نفسك قد كبرت إلى الحد الذي يمكنك من تنفيذ مشيئتك علي ، لقد تركتك تتكلم براحتك لأنني واثق برجاحة عقلك وسلامة منطقك ، أما دراستك فهي شيء آخر ، شيء له الصدارة على جميع الأولويات ، فاتركني الآن ولا تستعجل في اتخاذ أي قرار ، أنا بحاجة إلى أن أختلي بنفسي قليلا .
(2)
جلس على الشرفة وحيدا ، حتى أم مهدي لم تجرأ على الاقتراب منه ، تذكر أحداث يومه الطويل .. كان العشرات من الناس يتجمعون عند مبنى الشركة ، هبوا جميعا إلى هناك ، شيبا وشبابا ، كان بينهم نساء بلغن من العمر عتيا ورجال مضغ الدهر أشداقهم من الهرم . حتى الأطفال حضروا إلى المكان ، بعضهم محمولين على أيدي أمهاتهم وآخرون أكبر قليلا جاءوا بهدف التسلية والمتابعة . أما الشباب وهم أغلبية الحاضرين فبدوا متعبين لشدة اليأس الذي سكن وجوههم وأثقل كواهلهم .
كانت الشمس عمودية والأرض تلتهب تحت أقدام الجمع الغفير . في مثل هذه المواقف تجد كثيرا من الناس وقليلا من الآراء المفيدة . مشى أبو مهدي بين الجمع المنتظر ، ثمة همهمات وأحاديث جانبية غير مفهومة ، ورجل وقف غير بعيد يرغي ويزبد دون أن يقاطعه أحد حتى وصل إلى قوله :
- حتى لو قبضوا عليه فلن يجدوا معه شيئا سوى جواز سفره ومبلغ زهيد من المال ، هكذا حصل مع كل أقرانه .
- ماذا تقول ؟ والملايين التي أودعها الناس عنده ، أين يذهب بها ؟
- لعله هرَّبها إلى الخارج ، أو فعل ما هو أدهى من ذلك وأمر ...
- ما هو الأدهى من ذلك وأمر ؟؟؟
- أن لا تكون معه أصلا ، وسيطرت عليها المافيا العالمية المتخصصة في هذا النوع من الأعمال
- يعني ....
- يعني أنه حتى لو قُبِضَ عليه فلن يكون قادرا على إعادة أموالنا إلينا .
حوقل بعض الرجال واستغفروا وأبدى بعضهم الآخر جزعا لا مثيل له . أحد الذين يعرفهم أبو مهدي أخذ يهذي بكلام غير مفهوم ويحرك جسمه وأطرافه حركات طائشة كأعمى في وسط مشاجرة مفروضة عليه . ثار بعض الشباب وأخذوا يقذفون مبنى الشركة بسيل من الحجارة ثم تقدموا يبغون خلع الباب واقتحام المكان ، عند هذه اللحظة تدخل رجال الشرطة وبدا الموقف متجها إلى ما لا تحمد عقباه . قرر عندها أن يعود إلى البيت فلا فائدة ترجى من البقاء هنا لحظة واحدة .
كان يتساءل في نفسه : هل من المعقول أن يحصل شيء سيء لكل هؤلاء الناس في نفس الوقت ؟ كيف يمكن التصديق أنهم جميعا ضحايا لشخص أو مجموعة من الأشخاص ؟ ألم يكن من الممكن تلافي المصيبة الجماعية ؟ إنهم يقولون أن الموت مع الجماعة رحمة ، لكنه لا يحس بأي نوع من الرحمة رغم أن المئات يشاركونه مصابه . ماذا يستطيع أن يفعل ، هل يتربص به فيقتله ولو بعد حين ؟ هل يبقى في بيته فيغلق على نفسه بابه أبد الدهر ؟ هل يتمسك بأهداب الأمل ويقول أن الفرج قادم في الطريق لا محالة . كان يدرك بحكم تجاربه السابقة أن دروس الحياة قاسية ، إنها لا تجاملنا ولا تترك لنا مجالا للهروب أو المناورة . هو الآن أمام درس حقيقي ، يتجرعه رغما عنه ورغما عن سنوات عمره التي ظنها ستشفع له وتحميه من الوقوع في موقف كهذا .
(3)
مرت أيام قليلة بعد ذلك .. لقد طرأت عليه تغيرات جديدة ، عرفها هو في نفسه ولمسها الآخرون من حوله ، كان ينظر من بعيد ويحس صقيعا رهيبا يلف رأسه . أصبح عصبيا يثور لأتفه الأسباب ويلقي الشتائم على الذين من حوله بغير حساب . تشاجر مع أبي محمد الدكنجي لمجرد أن هذا الأخير ذكّره بالدين المتراكم ، ومزق عقد العمل الذي جاء به مهدي بعد أن اتفق مع أحد الشركات على العمل لديهم بدوام جزئي . أما الغضب الحقيقي و ( دبش ) الكلام الجارح فكان يلقيه في وجه أم مهدي فيكثر من لومها وتقريعها والانتقاص من شأنها ، بل انه أصبح ميالا لتكسير حاجيات البيت ورميها من النافذة في بعض الأحيان . كان سيلا عارما من الغضب ، وشخصية جديدة غير تلك التي لازمت أبا مهدي أكثر من خمسين عاما .
نقطة ايجابية واحدة فقط طرأت عليه ، لقد أصبح ملازما لصلاة الجماعة في المسجد ، وبالذات صلاة الفجر . كان يحس بطمأنينة تغمره عند دخوله المسجد ، وحلاوة تسكن جوارحه مع سماع التلاوة . سمع الشيخ في أحد الصلوات يرتل : " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون " فأحس قشعريرة سرت في جسده ، ومعنى جديدا تفتقت عنه الحروف ، لقد سمع نفس الآية مرات كثيرة قبل ذلك ، غير أنها هذه المرة مختلفة ووقعها له شأن آخر .
لكن تعاسته كانت تعود إليه بمجرد العودة إلى البيت ، وكان خروجه من حالته الراهنة يبدو بعيد المنال .
وفي أحد الأمسيات بلغه نبأ يقول أن الشرطة قد ألقت القبض على المجرم الفار ، لكنها عادت وأفرجت عنه بعد أن لم تجد ما يستوجب الاستمرار في حبسه .. تملكه حنق رهيب وغيض كاد يشق أضلاع صدره فيملأ العالم صراخا وعويلا .. هل تضيع حقوق العباد بهذه السهولة ؟ هل يفلت الجاني فيخطر أمام عينيه ليلا ونهارا ؟ من يثأر لأحلامه ؟ من يعيد إليه تقديره لنفسه واحترامه لها ؟ من وكيف ولماذا ، مئات الأسئلة ماج بها دماغه وارتجت لها جنبات روحه ، فاتخذ قراره الرهيب ....
خرج من البيت متجها إلى بيت الجاني .. النصاب القذر سيلقى جزاءه العادل على يدي ، سيخرج المارد الذي طالما قمعته في أحشائي ، فليكن ثأرا لنفسي وكرامتي وقوت أولادي . لقد أمضيت عمري هادئا وديعا لم أغضب أحدا ولم أعتد على حق إنسان . كل أبناء جيلي كذلك ، لقد تربينا على حب السلامة والاستسلام للأقدار . لن استمر في احتلال حيز الضحية ولن أسمح للآخرين بأن يستأسدوا على أشلائي . هذا العمر مضى هدرا ، كدا وشقاء ورضا بأقل القليل ، فلما تاقت النفس إلى حلم جميل جاء هذا الوغد فألقى جمرة لا تنطفئ في قلبي وزرع خنجرا مسموما في أم رأسي .
كان قد قطع نصف المسافة ماشيا على الأقدام حين لاحت أمام وجهه صورة ابنه مهدي .. ما أروع هذا الشاب ، انه رجل حقيقي وصاحب عقل راجح ورأي سديد . لقد بلغ من العمر عشرين عاما فلم يأتني يوما بالمتاعب التي يأتي بها الشباب لوالديهم ، ولا أحسست أن مراهقا طائشا يعيش في بيتي . حتى كلامه تلك المرة ، كان صوابا وحقا برغم قسوته وجفافه . لقد ربيته على الجرأة والمواجهة وكأنني أردت له أن يتمم ما كان ناقصا في أبيه . سيتخرج بعد سنتين ، كلي ثقة أنه لن يعدم وسيلة تمكنه من تذليل مصاعب حياته . لقد تعبنا عليه أنا وأمه فلم يذهب تعبنا هدرا وكان أحسن استثمار في حياتنا . رائعة أمه كذلك ، لقد قسوت عليها كثيرا في الأيام الأخيرة فلم تقابلني بغير الصبر والابتسام في وجهي ، هي الأخرى استثمار مهم في حياتي ، وامرأة ليس لها مثيل .
تشابكت الصور في رأسه ، في حياته أشياء جميلة لم يخسرها بعد ، مهدي وأمه وصلاة الفجر ، باتت ترن في أذنه كلمة قريب .. قريب .. قريب . لكن على الجهة المقابلة ما زال المارد يتحرق شوقا لإتمام المهمة وإفراغ رصاص المسدس في رأس الرعديد الجبان . ما زال يمشي باتجاه الهدف والغيظ يسكنه ، ورغبة الانتقام تشتعل في قلبه . هل أقتحم عليه بيته ؟ هل انتظره حتى يخرج ؟ لكن ما ذنب زوجتي وأولادي ؟ لماذا أضاعف مأساتهم ألف ضعف ؟ المارد يهمس في قلبه : هكذا يفكر الجبناء ، امض ولا تتردد . إمام المسجد يرتل : قريب .. قريب .. قريب . طال مسيره ، كان من المفترض أن يصل منذ وقت طويل . ها هو أمام الباب فيفتح له مهدي ..
- أين كنت يا أبي لقد أقلقتنا عليك ؟
( 4 )
علم في اليوم التالي أن شخصا آخر قد قام بتنفيذ المهمة التي كان يعتزم هو القيام بها .