مع إلغاء “ الرسوب “ من امتحان التوجيهي، تنتهي حقبة طويلة من المعاناة التي عاشتها الاسرة الاردنية على امتداد العقود الماضية، حيث شكل هذا الامتحان “ كابوسا “ مفزعا للطلبة وابائهم، ليس فقط لانه كان بمثابة “الحكم” النهائي الذي يقرر مصيرهم بعد رحلة الدراسة التي دامت 12 عاما، وانما لان مجرد التقصير بمادة واحدة او علامة واحدة سيحرمهم بالاحساس من النجاح، ناهيك عن اكمال دراستهم الجامعية.
الان تغيرت الصورة، فقد بادر وزير التربية والتعليم د. الرزاز، الى اطلاق “صافرة “ التطوير، قال لي وقتها : ليس من المنطق ولا المعقول ان يتحول “امتحان “ التوجيهي الى سرادق : واحدة للبكاء والاخرى للغناء، فالطالب الذي يفشل في تحصيل علامة تؤهله للنجاح في مادة التاريخ مثلا ليس فاشلا، ربما يكون “ مبدعا “ في مادة الرياضيات، فلماذا نضع عليه وصمة “ الرسوب “ التي تصبح وكأنها “ قيد “ يمنعه من تحقيق ذاته او بناء حياته.
لا ادري، بالطبع، لماذا تحمس البعض ضد هذا القرار، مع ان تطوير امتحان التوجيهي كان في مقدمة اولويات المجتمع بكافة افراده، ومع ان “ سطوة “ الامتحان ارهقت الاردنيين، ربما كان يعتقد هؤلاء ان المسألة اخذت طابع “ الاستعجال “ وانهم تفاجأوا بالقرار، ربما يرى اخرون ان البيئة الدراسية ليست مهيئة بعد للتكيف مع “المولود” الجديد ومستحقاته، ربما لا يزال البعض يعتبر “قسوة” التوجيهي معيارا للحكم على أداء الطلبة وتحديد مستويات تحصيلهم وذكائهم، ربما – ايضا – ما زال آخرون ينظرون الى التوجيهي وطقوسه كانجاز وطني يجب التمسك به كما هو ، وعدم المساس بقداسته.
بعض هذه المبررات تبدو مفهومة، لكن غير المفهوم هو ان يرتبط “ الرفض “ الذي سمعناه بأوهام شخصية تتعلق بتوجهات الوزير او تشكك في مقاصده، او تحاول ان تضنع “ العصي “ في دواليب التطوير الذي بدأه، هنا يجب ان نتوقف ، لان مثل هذه “ الحملات “ والمطالبات تنتمي الى فصيلة “ التشكيك “ والشيطنة التي اربكتنا منذ سنوات، واذا كان “ النقد “ مطلوبا دائما، فان خطر مثل هذه الانتقادات غير المبنية على اساس من النوايا السليمة والاحترام، ناهيك عن المعلومات والدراسات العلمية، يكمن ( الخطر ) انها تتحول الى ادارة تعطيل وهدم، وهذا ما يجب ان ننتبه اليه.
تعمدت ان اسجل هذه الملاحظة لسببين اثنين : الاول ان حركة قطار التطور التي بدأت في وزارة التربية “ بالتوجيهي “ يجب ان تستمر وتسرع اكثر، واذا ما نجح البعض بدفع الوزير للتراجع عن هذه القرار، وتعاملوا معه بمنطق التشكيك، فان ماكينة هذا القطار ستتعطل، لان مصير كل قرار لاحق، مهما كان مقنعا سيكون مثل قرار التوجيهي، وبالتالي فان جبهة مقاومة تطوير التعليم، باختلاف مبرراتهم ستنتصر على كل محاولة جادة يقودها هذا الوزير او غيره.
اما السبب الثاني فيرتبط بضرورة التفكير جديا بترميم فجوة الثقة بين الناس والمسؤولين، اعرف بالتأكيد ان البعض احتفى بقدوم الرزاز للتربية لاسباب خاصة بهم، مما جعل اطرافا اخرى تسجله في قائمة “ الخصم “، وبالتالي انسحبت عليه توجهات المحتفلين والمصفقين في اطار تطوير التعليم، وهي توجهات محفوفة بالشكوك والمخاوف، لكن هذه الانطباعات تبدو متسرعة وغير منصفة، فالدكتور الرزاز كما اعرفه لا ينتسب الى اي فصيل سياسي، وهو معروف بعقليته المنفتحة على الجميع، ناهيك انه يحظى باحترام معظم اطياف العمل الوطني، وهذا يكفي لكي نطمئن بانه لا يحمل اي “ اجندة “ خاصة، واتمنى ان تثبت الايام ذلك.
بقي لدي اربع ملاحظات، الاولى هي ان ملف تطوير التعليم وضع على الطاولة، ويستند الى مرجعية تم اقرارها وهي استراتيجية تطوير الموارد البشرية، وبالتالي فان ما سيتم ليست قرارات مستعجلة وانما خطوات لتنفيذ ما تم اقراره، الملاحظة الثانية هي ان هذه القرارات لابد ان تحظى بنقاش على اوسع المستويات، وخاصة على صعيد الاسرة التربوية المعنية بالتنفيذ، وعلى صعيد الاهالي ايضا، الملاحظة الثالثة هي ان وزارة التربية معنية اولا باصلاح اجهزتها وكوادرها ومدارسها، اقصد “ البيئة “ المدرسية بشكل عام، كما انها معنية باصلاح وتقويم ادواتها، وهنا لابد من التذكير بالملفات الثلاثة المهمة التي يجب ان لا تخرج عن مرجعية الوزارة : ملف الامتحانات وملف المناهج وملف التدريب، فمهما كانت الجهات التي ستتولى المشاركة فيها يجب ان يبقى القرار النهائي فيها للوزارة ومجلس التعليم فيها تحديدا.
الملاحظة الاخيرة هي ان جهود الدكتور الرزاز تحتاج الى دعم من قبل كل من يؤمن بتطوير واصلاح التعليم، كما تحتاج الى مشاركة ومتابعة، فان اصاب كان من واجبنا ان نقف معه، وان اخطأ فحسبنا ان نقول له اخطأت.
الدستور