يرى بعض مؤرخي الادب ان «الرواية» فن برجوازي اقتضاه تراخي ايام ابناء تلك الطبقة التي تنفسح اوقاتها لمتابعة احداث القصص وحيوات شخصياتها وما بينهم من ألوان العلاقات، فبالرواية يمكن للبرجوازي ان يدفع سأم فراغه الممتد، وان يُرضي هاجس الفضول لديه، كما يمكن ان تكون الرواية موضوعا لاحاديث الصالونات الاجتماعية، ومناسبة للثرثرة او اللغو الذي لا كلفة فيه على العقل فهو يسيل مسيل الماء في الاماكن الهابطة ولا يرهق صاحبه بتحليل ولا تعليل ويمضي به في مسارب الحكايات حتى يتركه لوسنه اللذيذ على فراشه الوثير.
فن برجوازي بامتياز، يحتفي به رجال ناعمون ونساء مُترفات وتتراءى فيه جوانب من واقع اجتماعي يتمايز فيه صنفان من البشر، اولهما – وهو الاكثر عددا والأشد عذابا وشقاءً – لا يملك ان يلتقط انفاسه وهو يلهث في طلب ما يُقيتُه سحابةً من نهار لا يطمح الى ما وراء ذلك بحال، وثانيهما – وهو الاقل عددا – يتمطى به فراغ الوقت فهو مشغول بملئه بفارغ الاهتمامات، واول ذلك الحكايات المسلية او القصص التي برع صانعوها في اثارة الفضول وفي استبقاء قارئيها وقارئاتها في أسِرَّتِهمْ او في ارائكهم على نحو ما يكون من جمهور المسلسلات التلفزيونية – سخيفة او غير سخيفة – في هذه الايام.
هذا نَجِدُه لدى بعض مؤرخي الادب عن نشأة الفن الروائي، ونحن لا نملك الا ان نُقِر ببقاء كثير من ملامح هذه النشأة الاولى في حياتنا الادبية والاجتماعية، مع فارق لا يمكن اغفاله، وهو ان هذا الفن وُلِدَ ولادة طبيعية في البيئة الأوروبية وتكامل له شرطا الزمان والمكان، على حين ازدرعناه نحن في صيغته التي انتهى اليها ازدراعا, واردنا له ان يحمل معه مُناخَه الذي تخلق فيه دون ان نأخذ مناخنا (وأُصولنا الأدبية) نحن بعين الاعتبار. فكان لنا من ذلك هذه المضاهأة المضحكة التي نحارُ معها: أهذا الذي نقرأُه لعمرو او لزيد او لفوزية، ام هو لروبرت وجوني وصوفي؟ والحكاية التي نتابعها لأي من هؤلاء العرب أو المسلمين، اهي مما يمكن تصور وقوعه في عمان والقاهرة وبغداد ام هي مما لا يمكن تصور حدوثها الا في باريس او لندن او نيويورك؟
وما يمكن قوله عن الفن الروائي يمكن قوله عن الفن السينمائي الذي يقدم صورا زائفة لواقعنا لا تعكس من حقائقه الاجتماعية ولا من قيمه شيئاً، بل تكاد يكون صورة منقولة الا في النادر – عن الواقع الذي صورته السينما الغربية، وكان من ذلك ما نراه من شخصية وجودية على الطريقة الفرنسية في فيلم مصري، ومن شخصية اسطورية القوة على الطريقة الاميركية (رامبو عربي مثلا) ومن شخصية متهتكة لا تعرف الا المغامرات النسائية. وعلى مثل ذلك يكون قياس عواقب الاقتباس واطرادات الانتكاس الذي شارك فيه روائيون متفرغون وكُتّاب سيناريوهات انخرطوا جميعا في عملية انتحال حضاري ممتدة على ما يقارب قرنا من الزمان، والناس – إلا من رحم الله – في غفلة ساهون!!.
ولقد يثور في النفس سؤال عن كل ذلك: أهي اشياء تأتي اتفاقا؟ ام هي مما تتظاهر على التمهيد والتوطئة له عقول وارادات، وتبذل فيه المليارات، من اجل ان لا يكون لهذه الأُمّة نهوضها الذاتي، وان يَظَل ثمة ما يلفتها عن قيمها واخلاقها، وما يُعميها عن اسباب حياتها وما يخدعها عنها بكل سبيل؟.
والمسألة لا تقتصر على الرواية والسينما، بل تمتد الى الشعر والفلسفة والفكر والسياسة، فكل اولئك اليوم مَظَنّة الائتمار بهذه الأُمّة ومظنة الكيد المبرمج لها.
ولا يقولن احد انها نظرية «المؤامرة» فذلك مما يلوحون به دفعا لوعينا ان ينتبه الى حقيقة ما يُراد لنا ويُمكَرُ بنا ونُوزَعُ فيه من مسالك التهلكة والدمار.
وإنه لمن خطل التفكير ان نرى علائم الائتمار وكثيرا من نتائجه الملموسة، ثم لا نخلص من ذلك الى ان ثمة «مؤامرة» قائمة يجب دفعها.
***
نستذكر هنا مثل «النعامة» التي تدفن رأسها في الرمال، ونقول ما يجب ان يقال، وان كان يغضب جموع الذاهلين وشِلَلَ المضاهئين..
الرأي