نَزّال: عندما يتحدث المكان
ليلى الرفاعي
11-04-2017 08:51 PM
خرج عن صمته التاريخ أخيراً، وبارحت الأسطورة سباتها؛ لتحكي لنا قصة الاسم والمكان، ما يزيد عن تسعين عاماً من الزمان، محدثة صدعاً، ووجعاً لم يلتئم رغم مرور السنين.. فكيف لبرعمِ حُبِ يُنزع من جوف حشاه ؟
هنا... استحضرتنا الذاكرة، واستنشقنا غُبار حضارة الرومان، وأقبل تاريخ عمان يحبو، ليقص علينا قصة ماضٍ مجيد، مٌتْرَع بخبايا النجاحِ، ونمو استثنائي النشء حيناً، وضنينٌ ودروبُ وعرة حيناً آخر. إنه المكان ... الذي أبى آل نزال إلا تجذيره ركناً قدسياً كريماً، تأسره ترانيم الوفاء، وتنديه طقوس الريادة، معلنة أجراس عمرانه الخلود.
لقد أوجعنا الحنين ونحن ننصت لقصة كتاب "فيلادلفيا المدينة والفندق" للكاتب د. تيسير أبو حمدان، الذي تم إشهاره في مؤسسة عبد الحميد شومان قبل أيام. ذلك الفندق الذي شهد بدايات عمّان ـ فيلادلفيا قديماً - وما يثير حفيظتنا هنا أمران : أولهما أن الفندق بذاته قصة متفردة في التاريخ والأحداث، وثانيهما : أن لمدشنيه قصة تاريخية أخرى لا تنفصل عراها عن ذلك البناء.
آل نزال، ومن لا يعرفهم فعليه قراءة التاريخ، بدءاً من الجد جريس صالح نزّال، وأخيه إبراهيم، اللذين انتقلا إلى القدس القديمة عام 1840م، ثم أريحا، فرام الله، وامتهنا هناك الفندقة، حتى باتت تجري مجرى الدم في عروقهما، وتجَدّرت في أصولهما وفروعهما، وورثها الأبناء فالأحفاد، الذين أصبحوا فيما بعد آباءً وأبناءً مورِّثين للمهنة.
السياحة والفندقة في مفهوم آل نزّال لم تكن امتهاناً؛ بقدر ما أضحت فناً أجادوا رسمه بالبناء والعمران والأفكار، حتى اذا ما ذكرت الفندقة؛ ذكر آل نزال تباعاً دون غيرهم .
كان قرار بناء فندق فيلادلفيا في عمّان آنذاك، طلباً كريماً من الأمير عبد الله بن الحسين الذي كان يتردد إلى أريحا في زياراته الدائمة هناك، وإقامته في فندق قصر الشتيوي الذي أسسه ابراهيم نزّال ـ الأخ - فقد شهد الفندق لحظات تاريخية أهمها إعلان وحدة ضفتي نهر الأردن ومبايعة الملك عبدالله بن الحسين ملكاً على الضفتين.
ولمّا فُتن الأمير بنهج الخدمات السياحية المقّدمة من حسن الضيافة، ولياقتها، ورقيها.
كان تواقاً بذات الوقت لبناء فندق شبيه به بالبناء والضيافة في بلاده، وتحديداً في عاصمة الإمارة. وبالفعل وبعد فترة وجيزة، وبالرغم من ضعف السيولة، وضيق الحال، ففي عام 1924م استطاع آل نزّال تشييد أول بناء حجري من الإسمنت المسلّح مع الحجر، مقام على سبع دونمات، بتصميم عمراني هندسي فلسطيني فريد، في مدينة عمان مقابلاً تماما للمدرج الروماني والتي تعرف حالياً باسم الساحة الهاشمية.
استضاف الفندق العريق العديد من الملوك والقادة والحكام العرب والأجانب، وكبار رجالات الدولة، بحكم قربه من مبنى الديوان الأميري، ومبنى رئاسة الوزراء، ولتمتعه بالعديد من المزايا التي جعلت منه مقراً دائما لضيوف الأردن فأقيمت فيه المناسبات واللقاءات والمؤتمرات والاجتماعات الرسمية وغير الرسمية.
لقد سجل الفندق أهم حدث تاريخي ألا وهو حفل توقيع إلغاء المعاهدة الأردنية البريطانية في 13 نيسان 1957م، واستطاع الفندق اسماً ومكاناً من تجذير وتأريخ الأحداث والأزمنة فكان بحق إرث عمراني عماني عريق إلى أن صدر قرار استملاكه، وإزالته من قبل أمانة عمان عام 1988، والتي أخطأت بقرارها في هدم معلم سياحي أثري، كان من المفترض أن يبقى شاهداُ لتاريخ عمان الماضي والحاضر. وأُسدلت ستارة النهاية المريرة لأسطورة فندق فيلادلفيا المدينة والمكان.
لكن آل نزال الباقون رغم ضيم القرار، ينتقلون بالاسم ذاته، لكن هذه المرة لمكان آخر، هو الفندق الذي حمل اسم فيلادلفيا، ثم اللاند مارك الآن، لم يهزمهم القدر، بل صنعوا من الأمل عباءة ومن المستقبل الإرادة والتصميم.
فكان فكر فضائهم أوسع وأشمل، لا يزيد المبارز السقوط إلا القوة.
فبادروا بإنشاء الفنادق السياحية والعلاجية تباعاً، في عمان ثم البحر الميت وماعين و البتراء والعقبة، ثم الانطلاق نحو العالمية والاستثمار في الولايات المتحدة وبريطانيا ولبنان، وفي عام 1969م ساهمت العائلة بتأسيس جمعية الفنادق الأردنية، الأولى من نوعها كمتطلب أساسي نوعي تعنى برعاية شؤون أصحاب قطاع الفنادق.
واخيراً وليس آخر خصخصت الكلية الفندقية، وتسجيلها كشركة أردنية للتعليم الفندقي والسياحي عام 1996،كلية غير ربحية لتأهيل الكوادر الفندقية وتغطية سوق العمل وتمكين السيد ميشيل نزال ثم نديم المعشر من تولي رئاسة هيئة المديرين ومديرا عاماً للشركة، والمعروفة حالياً باسم معهد عمون للتدريب الفندقي والسياحي.
بقي أن أحدثكم عن عميد السياحة ومُعًّلمها الحفيد لآل نزال الكرام، الذي سلك طريق الأجداد، ممتهناً وممارسا ومواكبا للتقدم الذي يتنامى في عالم السياحة والفندقة ليل نهار إقليميا وعالمياً.
لم ينس التاريخ لأنه ركن اصيل منه، ولم يقف عند حدود الذاكرة، لكنه أرخها، وسطّر في ذاكرة الوطن دليلاً لحضارة عمان الرومانية العمانية الفيلادلفية القديمة، توثيقاً لا يمكن إنكاره وشاهداً لأرث عائلته وبلاده.
إنه معالي ميشيل نبيه أنطون نزّال، وزير السياحة الأسبق المولود في عمان في 31 تموز 1956م، درس إدارة الفنادق، وامتهنها باحتراف، وهو مدير، ونائب رئيس، ورئيس ومؤسس وعضو للعديد من الشركات والجمعيات والهيئات واللجان والمنظمات التي يصعب حصرها، وهو عضو مجلس الأعيان الخامس والعشرين.
تلك هي حكاية الكتاب الذي بقي مخطوطة أوراق طي الأدراج خمسة عشر عاماَ، خرج من صمته أخيراً لتطرز أحرفه أسطورة فيلادلفيا المكان ....