دحر الإرهاب .. هل من أمل؟
عبد الله بني عيسى
11-04-2017 12:41 PM
في الحرب على الإرهاب هناك مقاربتان متلازمتان، واحدة أمنية، وأخرى فكرية. وفي حين تتولى الدول الشق الأمني بكل ما أوتيت من أدوات وإمكانيات، يجعلها تحد بشكل كبير من خطر الإرهاب، يبقى الشق الفكري هو الأهم لأنه الضامن الوحيد لاجتثاث الظاهرة من جذورها.
على أن المقاربة الفكرية، وفقا لما رأيناه في الأردن ودول عربية أخرى، لا تزال مرتبكة ولا تملك أدوات وتصورات واضحة لإدارة هذا الملف الشائك. إذ لا يعدو تدريب الائمة على الخطاب الديني المعتدل، أو توحيد خطبة الجمعة بقرار رسمي، أو إقالة المسؤولين الأمنيين عقب حوادث وعمليات يرتكبها الارهابيون، أو تشكيل لجان عليا لمكافحة التطرف والإرهاب، في المدارس والجامعات وأخرى في الاعلام.. أو حتى إعلان حالة الطوارئ .. الخ، أكثر من مجرد إجراءات تلطيفية قصيرة المدى والتأثير، وهي كمن يعالج الايدز بشوربة أرجل الدجاج. وذلك لسبب بسيط، هو أننا بذلك نبقى نلف وندور حول المشكلة دون الدخول في جوهرها، أو محاولة الوصول إلى التشخيص الصحيح لأسباب وجذور ظاهرة التطرف المرتبط بالدين.
مقولة "الإرهابيون لا يمثلون الإسلام" والتي يمكن تفهّم المقاصد النبيلة لأصحابها، وبعيداً عن الجدل حول صحتها من عدمها، لم تعد بذاتها تصلح لعلاج فالج الإرهاب. فالمتسامحون والمتشددون يدينون بذات النص، ومقابل معظم النصوص التي يسوقها المتسامحون دينيا، ثمة نصوص أخرى يستند إليها المتشددون في سفكهم دماء الأبرياء في المساجد والكنائس والأسواق والملاعب. فإذا قال المتسامح مثلا إن بعض النصوص الدينية جاءت لتخاطب زمنا معينا أو واقعة معينة، وإن علينا الأخذ بباطن المعنى لا بظاهر النص، يقول المتشدد إن تلك النصوص صالحة بحرفيتها لكل زمان ومكان. وعندما يستشهد المتسامح بالآية "ولكم دينكم ولي دين" فيرد عليه المتشدد إن هذه الآية منسوخة بآية السيف، وإذا قال المتسامح إن الآية التي تقول "فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب" محصورة في القتال، يسوق المتشدد عشرات القصص كدليل على خلاف ذلك... الخ.
وإذا أصر المتسامح على أن لدى الارهابيين فهما مغلوطا للدين، يُقال له ببساطة، إن هؤلاء هم الفاعلون والمؤثرون في الدين والمتدينين، وليس أنت. فهم من يقتلون باسمك وباسمي وباسم الدين، ويستنزفون من إنسانيتنا واخلاقنا كل يوم حتى بتنا مجرد قطعان من الهمج أمام الأمم والشعوب الاخرى.
ينبغي إذن النظر إلى كل الظروف التي تحيط بالظاهرة الدينية، إن أردنا حقا تشخيص أسباب التطرف والعنف باسم الدين، لاسيما المتاريس الفولاذية التي أحيطت بالنصوص المقدسة الملتبسة في المعنى والمبنى. أو قل بالموروث الثقافي الذي شكل الدين عماده الرئيس، ومع تقادم الزمن أصبح مليئا بالتشوهات. وخلافا لذلك سنبقى نحرث في الماء ونحصد المزيد من الضحايا.
لم تسمح السلطات الدينية "الكهنوت" أو لم تتسامح مع أي محاولة من أي ثقافة أخرى أن تنافس الثقافة الدينية أو تشغل حيزا في الأفق الثقافي العربي على وجه الخصوص، منذ 1400 سنة. ما جعل الخلل الأهم والرئيس الذي ينجم عنه العنف باسم الدين، يتعلق أولا بسيادة الظاهرة الدينية المحمية بـ "الكهنوت" الذي يدفع عنها أي محاولة لنقدها على الدوام، على ما سواها، وثانيا بغياب الثقافة المغايرة.
ثمة أمور فقهية باب النقاش فيها مقفل تماما، "اللامفكر فيه" وفقا لما يسميه المفكر محمد أركون، ومن يجرؤ على الدخول في هذا الباب، أو ينتقد فكرة ما، يخالف أمرا معلوما من الدين بالضرورة، وهي كبيرة تستوجب الإخراج من الملة وبالتالي القتل، على نحو ما حصل مع المفكر فرج فوده. هنا بالذات واحدة من أهم مكامن الأزمة المعرفية وبالتالي الثقافية.
النقاش هنا لا يبتغي الاشتباك مع جدليات فقهية، بقدر ما يسعى إلى لفت الانتباه لأهمية إحداث كوة في الجدار الفولاذي. وبانه يستحيل الخروج بخلاصات تنهي أزمة المعنى والمبنى، في النصوص الدينية، ما لم تتداعى "الأمة" إلى مجهودات فكرية جادة، والدخول في مراجعات عميقة، لتفكيك "النصوص الموقوتة" القابلة للتفجير في أي زمان ومكان، وزحزحتها وإعادة توصيفها ونزع الفتيل الرابض بين أحرفها.
بمعنى أننا ما لم نذهب إلى جوهر الخلل، عبر تفكيك النصوص المقدسة ونزع الهالة عنها وإخضاعها لسلطة العقل، وما لم نشرّع الأبواب للثقافات المغايرة، وما لم نسعى إلى تحريض العقل النقدي ليأخذ مكانه في الثقافة الدينية، فإننا سنبقى نحرث في الماء ونحصد المزيد من الضحايا.
على أن مثل هذا الجهد لا ينبغي أن تقوم به الدولة مباشرة، عبر المؤسسة الدينية الرسمية، لأن الثقة فيها متدنية، وجل ما هو مطلوب من الدولة، (إضافة إلى دورها الرئيس في حفظ الأمن) أن تهيئ الظروف الملائمة لحوارات مباشرة بين أصحاب الفكر حتى المتشدد لينخرطوا في جدل يذهب إلى جوهر المشكلة دون إبطاء.
قد يقول البعض إن مثل هذا المجهودات طريقها الفشل أيضا، ولن تفلح في انتزاع الفتيل من أيدي المتطرفين، بدليل أن محاولات الإصلاح الديني بدأت منذ بواكير الخلافة الإسلامية، وازدهرت على يد فلاسفة قدموا عبر عقود وقرون تضحيات خالدة، لكن باءت كلها بالفشل. وهذا الرأي على وجاهته، ليس صحيحا تماما، فلكل عصر أدواته وسماته. وهذا العصر هو عصر المعلومات بامتياز، والمعلومة لم تعد حكرا على النخب، بل صارت بمتناول الجميع، وعلى مرمى لمسة أصبع على شاشة هاتف ذكي، وحساب في "فيس بوك". وأزعم أن المسلمين لم يشتبكوا في تاريخهم كأفراد، مع هذا الكم من القضايا الجدلية التي خلفها العنف والتطرف وحول الظاهرة الدينية، كما يشتبكوا الآن، (وربما هذه من حسنات الظاهرة الداعشية)، وهذا بحد ذاته مستجد من شأنه أن يقلب الكثير من المعادلات في فهم الظاهرة التاريخية والثقافية وتدشين عصر التحول المنشود.