في وقت بات فيه الحصول على لقب "مؤثر" في وسائل التواصل الاجتماعي أفضل من الحصول على لقب عالم ذرة أو مخترع علاج لمرض قاتل، يصبح من الطبيعي أن تقدم راقصة برنامجاً دينياً يتحدث عن الفضيلة وأمور العقيدة.
اليوم مجرد وصول عدد المتابعين لأي شخص إلى رقم تعقبه خمسة أصفار يتأهل مباشرة للحصول على لقب "مؤثر"، ويبدأ سلم المجد والشهرة والوقوف على منصات الملتقيات والمنتديات متحدثاً عن تجاربه وناصحاً للشباب وواعظاً في قضايا الدين، ومفكراً سياسياً ومحللاً اجتماعياً وقد يصل به الأمر إلى تحليل كريات الدم الحمراء والبيضاء.
هنا لا نعمم، بل نتحدث عن ظاهرة باتت واقعاً شئنا أم أبينا، فبعض "المؤثرين" يعرف عن طبخات "ست الكل" أكثر مما يعرفه عن الحدود الجغرافية لبلده، ويعرف عن آخر صرعات "النيولوك" أكثر مما يعرفه عن أبن سينا والفارابي وابن خلدون والقائمة تطول.
لا أعرف كيف لهذا "المؤثر" أن يكون مؤثراً وحسابه لا يتضمن إلا معلومات عن المكان الذي سيتناول فيه الغداء اليوم، وعن حيرته حول ماذا سيرتدي في حفلة ابن عمة جارهم، ويحاول إشراك المتابعين لإخراجه من حيرته القاتلة، والأدهى والأمر أن يقوم بتصوير نفسه أثناء شرب الشاي ليتحفنا بآليات الشرب وكيفية مد "البوز" للوصول إلى كوب الشاي، لتنهال عليه الـ "لايكات" من حيث لا يدري.
ولكي تعرف حجم "المؤثر" الفعلي ما عليك إلا المرور على حسابه لتعرف ما هي القضايا التي يناقشها، ونوعية المتابعين، لتجد أحياناً أن صاحب الحساب "المليوني" لم يكلف نفسه عناء كتابة رأي واحد مفيد، أو طرح قضية تواجه مجتمعه أمام المتابعين للنقاش حولها.
أقمنا الدنيا ولم نقعدها، لأن راقصة تعتزم تقديم برنامج ديني في رمضان، وفي المقابل نحتفي ونمجد آلاف الراقصات وفنانات الزمن الرديء وأصحاب الأفكار السطحية، ومدمني الفراغ والثرثرة غير المفيدة، ونتغاضى عن دور هؤلاء "السطحيين" في تدمير العقل والوجدان الإنساني، وتأثيرهم السلبي في سلوك أبنائنا، وهم لا إنجاز لهم سوى ذلك الرقم الأصم المطبوع على حساب أحدهم معلناً أنه من أصحاب الحسابات المليونية، فيصبح بين عشية وضحاها المنقذ الذي نواجه به شرور العالم.
وللناس فيما يعشقون مذاهب، وكل أدرى بنفسه وبجمهوره، ولكن أن يفرض علينا هؤلاء "المؤثرون" ويتم تضخيمهم وإعطاؤهم حجماً أكبر منهم، إلى الحد الذي قد يصبحون معه بالفعل مؤثرين بشكل سلبي في عقول أبنائنا وبناتنا، فهذا اللامعقول بعينه، ففي الوقت الذي تسعى فيه التنظيمات الإرهابية للتأثير على شبابنا ليلاً ونهاراً، نعمل نحن من حيث لا ندري على مساعدة هذه التنظيمات من خلال تسطيح الفكر لدى الشباب وإغراقهم في توافه الأمور، فيصبحون صيداً سهلاً لكل صاحب فكر شاذ ومتطرف.
نعم، هناك أصحاب فكر ووجهات نظر ذات قيمة، وأصحاب تجارب ثرية، وهؤلاء لهم كل الاحترام والتقدير، ونحن مع "المؤثر" الذي يحصن أبناءنا بفكره وطرحه الإيجابي، ونحن مع المؤثر الذي يحصن عقول شبابنا ضد التطرف والإرهاب، ولا بد لنا من وقفة نفرق فيها بين الغث والسمين، ونبرز أصحاب الحسابات المؤثرة فعلياً، ونستفيد من تجاربهم وأفكارهم، وندعمهم لأن الرهان عليهم، فهم ضمير المجتمع وصوته، وهم الأقدر على التأثير، والتغيير الإيجابي.
وفي المقابل، لا يمكن ان نقبل بأن يضخم أصحاب حسابات "شوفوني وأنا عم بوكل أيس كريم بفندق السبات الطويل"، وكأننا سنحرر القدس بعد "شوفة بوزها" أو نخترع القنبلة الذرية أو نعلن عن علاج سحري لمرض السرطان.
في زمن تقدم فيه راقصة برنامجاً دينياً، ويعول على مدعي التأثير أكثر مما يعول على أصحاب الفكر والقلم، كونوا على يقين أننا سائرون إلى مستقبل مجهول.