باسم سكجها يرثي عمته ابنة يافا
باسم سكجها
31-03-2017 04:19 AM
كُنتُ أظنّها ستتجاوز التسعين، ولكنّ جَسدها خَذل روحَها فرحلت في التاسعة والثمانين، وقد حملتُ الليلة بيديّ الساخنتين حبّاً، روحها الشفيفة الدافئة، وجسدها البارد، مع ابنها حازم وابني ابراهيم، نقلاً من مستشفى ليس فيه ثلاجة، إلى آخر سنغسل فيه جسمها، ثمّ إلى الصلاة، وفي آخر الأمر: التراب.
هي عمّتي وصال، التي اختزلت في عُمرها يافا وعمّان وبغداد، وجابت عواصم الدنيا مُذ كانت صبيّة، فقد تزوّجت إبن عمّها حلمي خرّيج الجامعة الاميركية في بيروت، عضو مجلس بلدية يافا المنتخب، وهي إبنة العشرين، وكانت أجمل فتيات يافا، وكان حلمي الذي صار ابا حازم أكثر رجال المدينة أناقة وروحاً طيّبة وثراء، وتلك من قصص الحبّ التي سأكتبها في يوم ما.
كانت مُحيّرة لون العينين، بين أخضر وأزرق ورماديّ، رشيقة كما سحابة صيف تتخفّر من شمس ساطعة، وغيمة شتاء تتحفّز لمطر آت. كانت عمّتي وِصال ناعمة كما مَلمس الروح، حين تتحدّث عن أيام يافا، وقاسية كما دقّ الإزميل حين تتذكّر يافا، وكانت تمشي كيلومترات كثيرة في جبل عمّان، وحين تعييها المسافة تتوقّف عند موقف حافلة عامة، لتعود في باص، مع أنّ لديها كلّ السيارات، ولكنّها كانت تحبّ الناس، وكلّ الناس كانوا يحبّونها.
قبل سنوات قليلة، اكتشفنا أنّ حبّها لمن هم حولها بلغ مبلغ البذخ، فقد منحت حارس العمارة ما يؤهله لأن يفتح بيتاً في بلاده، ومنحت أخرى ما يجعلها تعود إلى بلادها راضية مرضية، وأكثر من ذلك بكثير، وأظنّها الآن راضية مرضية عند ربّها.
هي عمّتي، التي كنّا أنا وابنها حازم، شقيق روحي، نغالب يومها العاديّ بشقاوات الطفولة والصبا، وهي عمّتي التي احتفظت من أبي كلّ ألقه، فصارت في آخر عمرها تسمّيني ابراهيم، وكذلك إبني.
وصال، يا وصال…
يا إبنة جدّي علي، وشقيقة ابراهيم أبي، نودعك التراب اليوم، ونتمنى أن توصلي رسالتنا إلى الآباء والأجداد، ومن سبقهم: يافا لنا، ولن نتركها لهم، أبناء واحفاد.
وهذا مقطع من كتابي، “أنا، ولكن”، وقد ذكرت فيه وصال فيه، رحمها الله:
“عرفتُ، مؤخراً، أنّني دخلت بغداد لأوّل مرّة في العام ٥٨، وليس لي من العمر سوى أقلّ من سنة، مَحمولاً على صدر والدتي، التي أرادها أبي أن تستعيد معرفة أخته وصال وزوجها حلمي، وأخويه محمود وموسى. كان هؤلاء تجمّعوا على العيش في بغداد، بعد سنوات أخذتهم الهجرة معها إلى عمان والقاهرة، ولأنّ زوج عمّتي خريج الجامعة الاميركية ببيروت، وعضو مجلس بلدي في يافا، فقد أهّلته كفاءاته وعلاقاته لعمل مهمّ في بغداد، فتدبّر لأخوي زوجته الإقامة والعمل.
أمّي، حينها، كانت في الثانية والعشرين، ولعلها كانت تعرف الجميع وهي طفلة في يافا، ولكنّ إبراهيم الان يُسفّرها إلى بلد آخر لتستعيد معرفتهم، وليعرف هؤلاء كيف صارت تلك، التي كانت طفلة في العجمي، زوجة أخيهم الكبير، وأيضاً ليتعرّفوا على إبنه الذي لم يحمل إسم جدّه علي. قالت لي أمي إنني بكيت صراخاً كثيراً في الطائرة. وأحب، الآن، بعد أكثر من نصف قرن أن أفهم بكائي الطفولي باعتباره إنذاراً مبكراً على حزن عراقي عتيق، أتاني في الفضاء”…