ومن لم يتهيب صعود الفساد ..
عصمت الموسوي
30-03-2017 04:18 PM
ذات يوم من أيام السبعينات، استيقظ الصبي ذو الثلاثة عشر ربيعاً على وقع طرقات على باب بيته. لم يكن سواه مستيقظاً في تلك اللحظة المبكرة من صباح الجمعة، حيث كان الجميع نياماً، وكان الطارق جارتهم تحمل طبقاً من «الخبيص». قرّر الصبي تقسيم الطبق إلى أربعة أقسام، سيتناول ربعه ويترك البقية لإخوته؛ لكن ما أن بدأ بالتهام أول لقمة حتى وجد نفسه يغيّر رأيه ويلتهم نصف الطبق!
كان الطبق لذيذاً، والعائلة لا تزال نائمة، ثم وجد أن ليس من العدل أن يلتهم هو وحده النصف ويترك النصف الآخر لعائلة بأكملها، وما هي إلا لحظات حتى وجد نفسه يلتهم الربع الثالث!
حينها انتابه نوعٌ من الأسى على من لم يحظَ بلقمة واحدة من هذا الطبق الشهي، فقرّر أن يترك ربع الطبق الأخير، وفكرّ: ماذا سيقول لعائلته وأشقائه بعد أن قضى على ثلاثة أرباع الطبق؟ وهل تكفيهم هذه الكمية الصغيرة؟ وهل «يسوى» ترك ربع طبقٍ لعائلة كبيرة كعائلته؟ وماذا سيقولون عنه؟ ومن سيصدّقه؟ وهل سيغفرون له؟ وهل سيسلم من ألسنتهم ونقدهم ومعايرتهم له؟ وأخيراً تساءل: أليس من الأفضل تناول الطبق بأكمله؟
وهكذا فعل، ومضى خارج البيت سريعاً كأنه يفرّ من مواجهة حتمية قادمة، بيد أنه تذكّر الطبق الخالي الذي تركه خلفه في المغسلة، فقفل راجعاً، وغسل الصحن ثم أعاده إلى بيت الجيران. لقد أخفى الصبي بحسه الفطري كل معالم جريمته البريئة، خشية تلقي العقاب أو الملامة، أو هكذا اعتقد، وبرّر لنفسه الحصول بالكامل على هذه المكافأة الشهية. فهو الذي يستيقظ باكراً قبل الجميع كل يوم، وهو الذي يشتري الخبز، وهو الذي يعد الفطور. إن العصفور المبكر كما يقول المثل، هو الأولى بالتقاط الدودة، بيد أن الجارة ابتسمت وهي تتلقى الطبق، ولم يفطن الصبي إلى سرّ ابتسامتها إلا بعد حين. فليس من عادة الجيران في ذلك الوقت إعادة الأطباق خاليةً، وسيمضي زمان طويل على تلك الحكاية القديمة، وستظل العائلة ترويها وتضحك كلما حضر طبق «الخبيص» الذي ارتبط في أذهانهم بتلك الحكاية الجميلة والمعبّرة، وصاروا يتفنّنون في سردها وفي إسقاطها على واقع الفساد في مجتمعهم. ولعل الدرس المهم في الحكاية السالفة هو أن الجريمة الكاملة غير موجودة حتى في أبسط الحكايات الطفولية البريئة.
والسؤال هو: كم منا واجه قصة مماثلة في شركته أو مؤسسته أو بين ورثة عائلته على شاكلة القصة السابقة، يمنح أحدهم لنفسه حق الاستئثار في مؤسسات «الخبيص» لأنه أبكر من غيره، أو لأنه اشتغل أكثر أو هو الأقرب إلى الوالد؟ يأخذ هذا الوارث أو المالك نصيب الأسد من الإيراد، ثم ثلاثة أرباعه، ثم يستولي عليه كله؛ لأن الربح القليل يثير الشك أكثر من الوفير، ويبرّر لنفسه الحق كل الحق في طبق «الخبيصة» وحده لانشغال وغفلة الأخوة والشركاء والمساهمين والموظفين. يغسل الطبق خلفه لإخفاء القرائن كلها، ويدّعي أن الشركة أو المؤسسة لا يطرق بابها أحد ولا تتلقى خبيصاً ولا هريساً.
ولأن الفساد لا يعمل منفرداً، تستعين مؤسسات «الخبيص» هذه بشركات تدقيق محاسبية لإضفاء البعد القانوني والتصديق على انعدام وجود «الخبيص»، ولوضع الأختام والتواقيع المؤكّدة على اختفاء الطحين والزيت وكل مكونات طبق «الخبيص» بالمطلق.
إن الذي حدث طوال الفترة السابقة في كل الأرض العربية، هو أن الرخاء كان مغرياً وباعثاً على التهام أطباق الفساد والخبيص والهريس بالجملة وبالمفرد، في حين كانت مؤسسات الرقابة والمحاسبة إما غائبة أو نائمة؛ وعندما استيقظت الناس على الخسائر والأضرار وتراجع الإيرادات في شتى مفاصل الدولة وشركاتها ومؤسساتها كان طبق الخبيص قد أصبح من الماضي، وأصبح من يطالب بحصته فيه كمن يطالب بأموال الزعماء العرب في خزائن الغرب أو بأملاك الدولة العربية في فلسطين أو الأندلس.
هل فات الوقت؟ لم يفت بعد... لقد أشاع الفاسدون ثقافة ارتكزت على أمرين:
الأول: إن الإنسان لا ينجح ويحقق الطفرات والملايين إلا بالفساد والاحتيال والخبث والتزوير والكذب والتدليس، وليس بطرق التجارة المعتادة والطبيعية والنزيهة والشفافة، وإن «من يتهيّب صعود الفساد، يعش أبد الدهر بين الحفر».. مع الاعتذار لشاعرنا العربي أبو القاسم الشابي.
الثاني: هو اللعب على الوعي الجمعي، وإقناع الناس والأفراد باستحالة كشف الفساد أو تعريته أو محاكمته، حتى ليبدو دعاة مكافحة الفساد مجانين ومخابيل، يعرّضون مصالحهم للخطر باعتبار أن الفساد قوي جداً، وأنه ليس فرداً أو فردين؛ بل شبكة متراصة ذات متصالح مترابطة، وأن فرسان الفساد واصلون ومتمكّنون ولا خوف عليهم، تخدمهم الثقافة السائدة، والصحافة الخائفة، وضعف القوانين والقضاء وعدم جدية مؤسسات النزاهة.
إن الحلول تكمن في الاشتغال المجتمعي لإثبات العكس في الأمرين السالفين، وتغيير العقلية، وضرب الفكر السابق الذي تأسس على فرضية استحالة محاربة الفساد والفاسدين، والبدء بالعمل المكثّف والمتعدد الأوجه باعتبار أن الفساد واهٍ وضعيف؛ لأنه يرتكز على مخالفة القوانين والاحتيال، وخوف الفاسدين من انكشاف أمرهم بسبب تطاولهم على حقوق غيرهم، وعلى حقوق الدولة التي تضع الرؤى والخطط والاستراتيجيات الاقتصادية لتعزيز إيراداتها ومداخيلها، بينما يشتغل الفساد من خلف ظهرها لتوهينها وإفشال خططها.
من هنا يجب إشاعة ثقافة مغايرة تعمل على توسل كل الآليات المتاحة، وتعزيز الثقة في الصحافة الحرة المستقلة، والقضاء العادل، وإعادة تأهيل المجتمع، وتمكين منظماته وإقناعه أن مشوار مكافحة الفساد قد يكون شاقاً وطويلاً ومضنياً، لكنه ليس مستحيلاً. اشتغل المحامون على مطاردة عصابة «كابوني» الإجرامية في أميركا في ثلاثينات القرن الماضي حتى أوشكوا على اليأس، ثم غيّروا استراتيجيتهم في ملاحقته، واقتيد إلى المحاكمة في نهاية المطاف بتهمة مخالفة القانون والتهرّب من الضرائب .