رئات صغيرة .. وهواء مسموم
راشد صالح العريمي
27-03-2017 11:08 AM
لسبب ما، فإن بعض القضايا التي يترتب عليها أفدح الآثار حول العالم لا تحظى بقدر من الاهتمام يتناسب مع خطورتها وأهميتها لمستقبل الإنسانية وتحسين حياة البشر على الأرض، وإنقاذ الملايين من مصائر مؤلمة ومفزعة، أو تخفيف ظروف بالغة القسوة تبدو قدراً محتوماً لا مهرب من مواجهته، فيما هي ليست كذلك. ومن المؤكد أن إعادة جدولة مجالات اهتمامات الناس من جميع أنحاء العالم لتشمل ما يمكن تسميته "القضايا المنسية"، العابرة للجنسيات والأديان، تمثل خطوة على طريق حل مشكلات خطيرة، إذ سيترتب على اتساع نطاق المهتمين اتخاذ خطوات فعلية من نوع ما نحو الحلول، وحشد جهود أكبر وموارد اقتصادية أوسع لتقليل المعاناة في كثير من مناطق العالم.
قضايا الأطفال أحد نماذج اختلال أولويات الاهتمام، وبرغم فداحة المضامين والحقائق المفزعة في كثير منها، فإنها لا تستوقف كثيرين ممن يمرون عليها بهدوء وينسونها بسرعة. ويحتاج ذلك إلى تحليل يتصل بعلم النفس وبطرق الأداء اللغوي ومجالات أخرى ذات صلة، فكيف تفقد معانٍ مثل الموت المرتقب لملايين الأطفال أو جوعهم أو أمراضهم المزمنة أو حرمانهم من المأوى أهميتها أو أثرها في النفوس؟ والأطفال هم مستقبل البشرية، ولنا أن نتوقع أن ما يلاقونه في سنوات عمرهم الأولى له تبعات طويلة وبعيدة المدى، فانتشار البؤس والمرض والفقر والجوع يحمل آثاراً بشعة على صورة العالم في المستقبل، ويُنذر بمشكلات لا تتوقف عند حدود دولة أو إقليم بعينه، بل ربما تتسع تبعاتها لتشمل العالم.
لدينا تقارير كثيرة من هذا النوع، فقبل ستة أشهر تقريباً صدر تقرير عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) والبنك الدولي يفيد بأن 385 مليون طفل في العالم يعيشون في فقر مدقع، حيث ينتمي خُمس الأطفال في الدول النامية إلى أسر تقع تحت خط الفقر. ويعني ذلك، وفقاً لأنتوني ليك المدير التنفيذي لليونيسيف، أن الأطفال الأصغر في هذه الأسر أكثر تعرضاً للظروف الأسوأ، بما يترتب عليه ضعف تنمية أجسامهم وعقولهم. وعلينا أن نتوقع أن هؤلاء الأطفال هم الأكثر قابلية لأن يكونوا وقود الحروب والنزاعات التي تندلع في مناطق عدة من العالم، والبيئة الخصبة لانتشار التعصب القومي والديني والإرهاب حول العالم، بما يجعل من الكوكب بأكمله مكاناً تتزايد فيه المخاطر التي لا تعترف بالحدود والفواصل الجغرافية.
ملايين الأطفال من هذه الفئة، لن يبقوا محصورين في نطاقهم الجغرافي كما كان الحال في السابق، وهم على الأرجح سيكونون جزءاً من حركة الهجرة العالمية التي ستتضخم أكثر مما هي عليه الآن، وستتفاقم المشكلات والأنشطة غير الشرعية والجرائم المرتبطة بها، والصدامات التي تنشأ بين الدول من جرائها، والتوترات الحضارية والاجتماعية والمواجهات على خلفية الصراع على فرص العمل ونمو التعصب القومي في الدول التي ستكون هدفاً للهجرة، وهي غالباً دول غربية غنية، والاختبارات الصعبة لقيم الحرية والمساواة وحقوق الإنسان التي ادعى الغرب أنها أساس تفوقه الحضاري، فإذا بها تتآكل بسهولة أمام مواجهة الواقع لتكشف عن تجذر التعصب الذي اعلن عن نفسه بقوة. وفي كل الأحوال، فإن تراجع هذه القيم خسارة إنسانية تستوجب الأسى، أياً كانت حقيقة تطبيقها فيما مضى.
علينا أن نفزع حين نقرأ كذلك التقرير الصادر عن اليونيسيف قبل أسبوع تقريباً، مبشراً بأن واحداً من كل أربعة أطفال في العالم سيعيش في مناطق تعاني نقصاً شديداً في المياه الصالحة للشرب بعد عقدين من الآن، وأن الاحترار العالمي والجفاف سوف يفاقم مشكلة نقص مياه الشرب في دول كثيرة حول العالم، في الوقت الذي ستنهار فيه البنية التحتية بفعل الفيضانات والأمطار الشديدة في دول أخرى، وتتفشى معها أوبئة مهلكة مثل الكوليرا التي تنتقل من خلال المياه، فيما يموت مليون ونصف مليون طفل سنوياً بسبب الأمراض التي تنقلها المياه. ويحذر التقرير الذي صدر بمناسبة يوم المياه العالمي من أن التحرك لمواجهة هذا المصير يجب أن يبدأ الآن، وليس غداً، ولا يبدو أن هذا التحذير قد وجد من يأخذه على محمل الجد.
في "هرم ماسلو" الذي يحدد الحاجات الإنسانية، يوجد الطعام والشراب في قاعدة الهرم، بوصفهما من الحاجات المتعلقة بالبقاء، أهم الاحتياجات الإنسانية وأقواها، وبجوارهما التنفس والنوم وأشياء تندرج في الإطار الفسيولوجي ذاته. وتفيد دراسة لليونيسيف بأن 300 مليون طفل حول العالم يعيشون في مناطق يتخطى ثلوث الهواء فيها المعايير الدولية بست مرات في بعض الأحيان، بمعنى أنه لا خيار أمامهم غير استنشاق المرض والسموم مع كل نفس يدخل صدورهم الصغيرة، وأن تلوث الهواء يساهم على نطاق واسع في التسبب بوفاة نحو 600 ألف طفل دون الخامسة من العمر كل سنة، والتأثير المخيف في ملايين الأطفال الآخرين، فلا يقتصر ضرر الهواء السام على أمراض الجهاز التنفسي فحسب، إذ يتجاوز ذلك إلى أدمغة الأطفال ويؤثر في نموها بطريقة تستعصي على العلاج، وتخلف وراءها آثاراً لا تزول.
لقد تحدثت في الفقرات السابقة عن الآثار التي ستلحق بالعالم، ربما لأن تخويف البشر بأن التهديد سيطالهم يبدو في وقتنا الحالي أبلغ أثراً من تذكيرهم بالجانب الإنساني، لكنني كنت أحب أن أركز على إحياء الإنسانية في الإنسان، وبعث القيم والفضائل الكبرى التي شكلت هدفاً وحافزاً لمسيرة الفكر الإنساني. وبرغم أن الواقع كان خشناً وفظاً في كثير من مراحل التاريخ، فقد كانت قيم الخير والحق والجمال تبدو غاية للمفكرين والمنظرين، والأديان والفلسفات والحركات الاجتماعية الكبرى في التاريخ الإنساني كلها سعت نحو هذه الغاية النبيلة.
وربما يكون المفزع في المرحلة التي نعيشها أن العالم يعرب جهراً عن عدم اكتراثه لمثل هذه الغايات، ويمعن في تحسين استبعادها من حساباته باعتباره ضرورة تفسح الساحة للواقعية وفهم العالم على ما هو عليه. ومن المؤكد أن هذه النزعة تجافي الطبيعة الإنسانية التي غُرس الخير في فطرتها، فضلاً عن أنها تجعل الحياة أقسى وأسوأ، أي إنها تتعارض حتى مع فكرة المصلحة إذا نظرنا من الجانب النفعي البحت.
ويقودني ذلك إلى الحديث عن فكرة "التربية الأخلاقية" التي تؤدي دوراً في مهما في إعادة شيء من التوازن إلى العالم، وأعتقد ان الدرس الذي تقدمه دولة الإمارات العربية المتحدة بإدراج التربية الأخلاقية في المناهج الدراسية بمبادرة واعية من صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ليست مجرد إجراء ذي طابع محلي أو حتى خليجي، بل هي إدراك لحاجة إنسانية ملحة تتخطى نطاق الإمارات أو مجلس التعاون في عالم يموج بالاضطراب والارتباك، ويحتاج إلى إعادة النظر في الآليات التي يُبنى بها الوعي ويُقام عليها العقل والشخصية في أي مكان من العالم.
إعادة بناء الطريقة التي ننظر بها إلى هذه القضايا تحتاج إلى إعادة النظر في مؤسسات التعليم والإعلام حول العالم بشكل رئيسي، ويجب أن تحتل القضايا الإنسانية موقعاً أوسع، وتُسلط عليها أضواء أقوى في سنوات التكوين، لأنها الأكثر تأثيراً. وحينها لن يكون المرور على التقارير المفزعة حول الأطفال مروراً عابراً، ولن تمر علينا مرور الكرام إحصائيات الجوع والمرض والفقر والموت، ولربما حشدنا جهودنا من أجل أن يكون هذا العالم مكاناً أقل سوءاً مما هو عليه، وأخف وطأة على البشر الذين يضربون في الأرض ويبتغون من رزق الله، آملين أن يكون الغد أفضل من اليوم.
"الحياة"