كل ما نتمناه من قمة “ البحر الميت “ ان تطمئننا على سلامة ذاتنا العربية , وان تعيد لعواصمنا العربية التي فقدت ثقتها بنفسها وبمن حولها توازنها وقدرتها على تصحيح الاخطاء والخروج من المأزق الذي غرقت فيها على امتداد السنوات الماضية .
ادرك تماما ان حبل الاماني طويل , وان المواطن العربي الذي حاول ان يمسك به مع كل “قمة “ تعقد اصيب بالخيبة ، حتى ان هذا الحبل انقطع , لكن ارجو الا نفقد الامل تماما , فأقل ما يمكن ان تفعله هذه القمة هو ان تحقق فضيلة “ الالتقاء “ لاكبر عدد من الزعماء والقادة العرب وان تبعث برسالة لمن يهمه الامر بان العرب , مازالوا موجودين , ليس سياسيا فقط , وانما باجسادهم وارواحهم , خاصة بعد هذا الطوفان الذي تعرضت له منطقتنا العربية , والدماء والالام والصراعات التي لم تتوقف ولم تهدأ بعد .
حين ندقق في مشهد المنطقة , نجد ان المشروع العربي ما زال غائبا ,كما ان العرب غائبون عن “ الطاولة “ ، واحيانا ليسوا اكثر من رجل مريض تحاصره “ الاجندات “ والمطامع الدولية والاقليمية التي تتربص به وتبحث عن مصالحها على حسابه , نجد ايضا ان صوت الحكمة الذي كان موجودا على مدى تاريخنا المعاصر اختفى لمصلحة خطاب مجنون ومأزوم ايضا , وكأن الجسد العربي يتحرك بلا رأس , ويتخبط بلا دليل , نجد ثالثا ان القضايا التي كانت تشكل “ مشتركات “ عربية , كقضية فلسطين , تراجعت لحساب قضايا داخلية تهم كل قطر , وكأن العنوان الذي تبقى هو “ انا ومن بعدي الطوفان “ , نجد رابعا ان الارهاب اصبح الشغل الشاغل لمعظم الدول العربية , وان اولوية مواجهته اصبحت مقدمة على ما سوى ذلك , نجد خامسا ان “ اسرائيل “ التي كانت هي العدو بلا منافس احتلت المرتبة الثانية -او ربما لم تعد كذلك – بعد ان تقدم الخطر الايراني – وقبله خطر “ الذات “ التي اكلت نفسها بنفسها .
سؤال ماذا يمكن للقمة ان تنجزه وسط هذه “ المناخات “ الملبدة بالتحولات والصراعات والانقسامات يبدو مشروعا , لكن الاجابة عليه تحتاج الى تسجيل ملاحظتين : الاولى هي ان يدرك القادة العرب ان مصير بلدانهم اصبح في خطر , وان الاعتماد على شعوبهم , لا غيرها , هو الطريق الاقصر والاوحد للحفاظ عليها وضمان استقرارها , اما الملاحظة الثانية فهي ان اطلاق حركة السياسة من خلال تدشين اصلاحات حقيقية تجسر الفجوة بين الانظمة وشعوبها , وتعيد الثقة بينهما هو العنوان الاساسي لاستعادة العافية وتحقيق الحد الادنى من الاحترام ناهيك عن انه الخطوة الاولى للخروج من المازق الذي وجدنا انفسنا فيه .
فيما يتعلق “ بالانجاز “ الذي يمكن للقمة ان تحققه يمكن الاشارة الى عدة ملفات , الاول ترميم العلاقات العربية البينية وتأجيل او جدولة الخلافات بين بعض العواصم التي ارهقتها صراعات “ الاجندات “ كمقدمة لاجراء مصالحات تاريخية بين كافة الدول العربية ، الثاني اعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية كقضية عربية مركزية , لاسيما في هذه المرحلة التي تزدحم فيها “ اسواق “ العروض والمزايدات , وتتربع فيها اسرائيل كمنتصر يريد ان يفرض شروطه , وتحاول فيها واشنطن ان تدفع العرب للقبول بتسوية اقليمية ظالمة , ويجد الفلسطينيون انفسهم عاجزين عن فعل اي شيء , الثالث ملف الحروب العربية في سوريا والعراق واليمن وليبيا , وهي تحتاج الى مواقف ومراجعات عربية واضحة وحازمة , بموجبها لابد ان يصار الى طرح مشروع عربي “ للسلام “ داخل اطار الملة الواحدة , وفتح حوارات مع الدول الكبرى في الاقليم ( تركيا وايران ) ومع الدول الكبرى , ليكون الحل العربي هو المفتاح للدخول في تسويات نهائية لكافة الصراعات في المنطقة .
تبقى ملفات اخرى مهمة , منها ملف “ اللاجئين “ السوريين الذي مازالت الاردن تتحمل العبء الاكبر منه , حيث لابد ان يتشارك الاشقاء العرب فيه , و ملف الاقتصاد والتبادل التجاري بين الدول العربية الذي ما زال في اخفض مستوياته , و ملف الحريات العامة والمعتلقين في البلدان العربية على قضايا سياسية ، وملف التعاون الامني لمواجهة الارهاب هذا الذي يستحوذ دائما على اهتمام القمم بمعزل عن المجالات الاخرى الذي تتعلق بجذور التطرف واسبابه التي ساهمت في انتاج الارهابيين .
باختصار , قمة البحر الميت يجب ان تترك بصمة - اي بصمة ايجابية - في مسيرة القمم العربية الطويلة , واذا تعذر ذلك فأقل ما يمكن ان تنجزه هو ان تطمئن الشعوب العربية بان امتهم مازالت حية وعصية على “ الانقراض “ وان بمقدورها ان تلتقط انفاسها وتصحو من جديد .
الدستور