كانت مهنة الطب حتى وقت قريب من أسمى المهن التي عرفها الإنسان، فهي متعلقة بصحة البشر، والتخفيف من آلامهم، ومداواتهم للتخلص من الأوجاع والأمراض، ولكن مع دخول البشرية حالة من التوحش غير المسبوق في تاريخ الحياة على هذه الأرض، تحولت هذه المهنة إلى تجارة رابحة، وإذا ما خفت نسبة «الضمير» في متعاطيها أصبحت مهنة قاتلة، لا منقذة لحياة البشر، ولا أعمم إطلاقا، فحسب قول جداتنا وأمهاتنا: إن خليت بليت، وهي ليست خالية بعد من ملائكة يدبون على الأرض، وإن لطخ الشياطين سمعة هؤلاء، فبت تبحث بالمندل عن طبيب ابن حلال يداوي علتك، ولا يتعامل معك بوصفك فقط «زبون» يضيف إلى حسابه في البنك رقما آخر!
قبل أن يصاب أصدقائي في نقابة الأطباء بحالة حنق علي، ويجردوا اقلامهم وربما «مباضعهم» للرد أو اتهامي بالقذف والذم، اعتذر منهم سلفا، فأنا لا أعمم، والخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة، والحمد لله، ولكن يبدو أن ما أصاب المهنة هو الفيروس اللعين نفسه الذي ضرب جسد المجتمع، أعني «الفساد» فلم يغادر منه عضو دون أن يأخذ حصته منه، وربما ساعدت طبيعة المهنة على دخول هذا الفيروس، كونها تبيع خدمة لا يمكن التأكد من صحتها وجودتها، فأنت حينما تدخل إلى الطبيب طالبا مساعدته في التخلص من الألم تصبح كما المريد بين يدي شيخه، يقلبه كيفما يشاء، أو كأنه جثة هامدة في يدي من يغسله، وما عليك إلا أن تمتثل للتعليمات والأوامر، وتنفذها بحرفية تامة، وإلا فإن أصغر كلمة تسمعها من «طبيبك» هي: روح شوف دكتور غيري، أو: هوه أنا الدكتور ولا أنت؟ أو: ما دام بتعرف تداوي حالك لشو جاييني!
وطبعا يا ويلك يا ظلام ليلك إن وقعت في يدي طبيب متعاقد مع مستشفى لتوريد الزبائن، أو متفق مع مختبر أو صيدلية، أو مندوب مبيعات يروج لدواء جديد، حينها تصبح مجرد سلعة لتنفيع المستشفى والمختبر والصيدلية وشركة الأدوية، فإن شعرت بمغص في معدتك، او ألم في ركبتك مثلا، عليك الخضوع لعملية تشريح سريري، وزيارة المختبر، وربما «تحتاج» إلى صور اشعة ورنين مغناطيسي، وكل ما هنالك انك ربما ثقلت في عشاء الليلة الماضية، أو تزحلقت عن الدرج، أو أتيت بحركة خاطئة آذت قدمك وأنت غير منتبه، وإن ناقشت الطبيب في جدوى كل تلك الإجراءات الاحترازية من تصاوير وفحوصات، قال لك: أنت حر، وأنا غير مسؤول عن أي مضاعفات قد تحدث لك، وعندها تشعر أنك قاب قوسين أو أدنى من الموت، إذا لم تمتثل للأوامر الصارمة، فتذهب صاغرا للمختبر، وأنت غير مقتنع بما تفعل، ولكنك تقول في نفسك: لعله يكون صائبا، وفي النهاية ستتحمل شركة التأمين العبء الأكبر من العملية، وحينما تذهب إلى المختبر تكتشف أن شركة التأمين لا تغطي كل احتياجاتك من الصور، وفي الصيدلية كذلك، يقال لك أن الدواء الفلاني والعلاني خارج التأمين، وفي المحصلة، عليك أن تكون ثريا جدا، ومن أصحاب الدخول الباهظة، كي تمتثل لمتطلبات أي مرض حتى ولو كان بسيطا يعالج برأس بصل مشوي!
ولرأس البصل المشوي حكاية طريفة لا بد أن أرويها ذات يوم، لأنها المثل الأكثر نصاعة على ما أتحدث به، وعافاني الله وإياكم من زيارة الأطباء..
وللحديث بقية!
الدستور