جيل الأمهات اللواتي غادرن الحياة بلا وداع، وبعضهن ما زال على قيد الحياة، واللواتي أسهمن في صناعة جيل من الرجال والنساء المتعلمات، هذا الجيل جدير بالعيد حقاً، وما كان عليهن لو تم اقتطاع يوم في السنة للتخلي عن الأعمال الشاقة في جو عائلي بهيج يتم فيه تقديم الهدايا والعبارات الجميلة، كنت أتخيل لو اجتمعت حمدة الأحمد وحليمة الحسين وشيخة الفالح وصبحا أبو داود، وقائمة طويلة من نساء العمومة في يوم ربيعي مشمس، خالٍ من الإرهاق والتعب والشقاء المستمر، في حاكورة دار «ابو محمود» الفسيحة المخضرة بين شجيرات الليمون وتبادل أقداح الشاي الأحمر الطازج المشبع برائحة الحطب والدخان الجميلة.
صدقوني أنها فكرة رائعة، لكنهن لم يكن يعثرن على هذه اللحظات البهيجة المليئة بمصطلحات التحبب : « يا شينة، يا خبصة، يا غبرا .... « إلّا خلسة، وقلما يجدن فرصة للاجتماع في ظل جدول أعمال يومي يبدأ قبل بزوغ الفجر الصادق بتزبيل الفرن، وحلب البقرات وتفطير الطرشات، وإعداد الخبز قبل استيقاظ الأطفال والعائلة للاستعداد للإفطار المستعجل قبل أن يدق جرس المدرسة الصباحي ومن ثم تبدأ فترة تنظيف البيت والساحات وحظائر الحيوانات، وجلب الماء من العين في قعر الوادي حملاً على الرؤوس، وكل ذلك يسبق الإعداد والتجهيز من أجل اللحاق برب العائلة الذي غادر إلى الحقل ولم يتناول فطوره بعد، من أجل المشاركة في أعمال الحقول المستمرة التي لا تنتهي منذ أن تبدأ عمليات الحراثة والتعشيب وزراعة الخضروات، والنكش والدق والتقبير، والسقي حتى يأتي موسم الحصاد وقطف الثمار.
تمضي الأيام مسرعة، والناس تركض خلف لقمة الزاد، من أجل تأمين رزق العيال، وشيء من النفقة المطلوبة للمدارس، وكانت تبدو مرهقة، خاصة وأنها تحوي بعضاً من المنافسة والمقارنة بين أبناء العمومة والحي والمدرسة، من حيث طقم الكاكي والحذاء البلاستيكي الجميل وحقيبة مهترئة تعاقب على حملها الأبناء تباعاً، أما الجوارب فكانت بضاعة لا يعرفها إلّا قلة من المدللين.
لم يكن هناك وقت لدى الأمهات للفرفشة، أو للنزهة أو للتسوق، بل كان الناس لا يعرفون المدينة إلّا وقت المرض الشديد الذي يهدد بالموت، ولم تكن الحلوى متوافرة إلّا ما يحضره (أبو دواس) من المخشرم أو المطعّم الملون المليء بالسكر، والقهوة السادة لم تكن متوافرة إلّا في بيوت المخاتير وبعض أهل الكيف، أما الشاي فهو المشروب الساخن المتوافر دائماً والذي كان جزءاً من وجبة الغذاء الضرورية في كل الأوقات.
جيل كامل من المؤسسات يغادرن الحياة تباعاً بلا أعياد وبلا إجازات أو أيام خاصة وبلا فرصة للتعبير عن العواطف المكتنزة في صدورهن، لا تجرؤ إحداهن على التلفظ بكلمة الحب، ولكنها مشبعة بالأمومة الصارمة والحرص على القيم، تخفي انتظارها المكبوت لجندي في الحرس الوطني، أو موظف صغير في مكان لا تعرفه، بلا هواتف ولا مواقع تواصل اجتماعي، ولا سيارات تنقلك وقتما شئت.
يحدثني الدكتور (اخليف غرايبه) وهو بجانبي في بيت العزاء، يقول عندما كنت أدرس الثانوية في عجلون، خرجت مسرعاً لألحق بالسيارة الوحيدة في البلد بعد الفجر وفي الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم يقول جاء المراسل وكان يسمى (الآذن)، يطلبني إلى غرفة المدير وعندما دخلت إليه مسرعاً وجدت والدتي الحاجة (ريّا الحسين) جالسة فتفاجأت بوجودها وإذ بها تدخل يدها إلى جيبها لتخرج دفتراً كنت قد نسيته في البيت فخافت أن أكون بحاجته، المهم في القصة أن الحاجة (ريّا) قد جاءت من (فارا الهاشمية) مشياً على الأقدام إلى عجلون، ورجعت ماشية أيضاً على قدميها بعد إنهاء المهمة..
لقد بكيت لوحدي بحرقة، وما زالت أبكي كلما تذكرت قصة الحاجة (ريّا) التي تمثل جيلاً عملاقاً فذاً يستحق أن يكون له عيد فيه كل الاحتفاء والاحترام والتقدير، رحم الله أمهاتكم جميعاً، الأحياء والأموات منهن، وجعلنا وإياكم من البارين بهن.
الدستور