أنا من جيل كان مطلوبا منه أن يحفظ قصيدة "عمي منصور النجار" غيبا، وأذكر أنني قمت بتسميع القصيدة، وبدل أن أقول: يضحك بيده المنشار، قلت المزمار، وما إن سمع المعلم كلمة المزمار حتى استشاط غضبا، وكان استخدام العصا والطبشور والحذاء وسلة النفايات، مسموحا للمعلم في ذلك الوقت، وكانت النتيجة أن فقدت السمع والبصر لدقائق معدودة من (خماسي) جاءني على غفلة، وكأنني شتمت العم منصور ولم أخطئ فقط في مهنته!
حتى اليوم، في ساعات الفجر أسمع (وشوشة) في أذني، ولولا العناية الالهية لفقدت السمع من أجل منشار!
في حصص الفيزياء قلنا إن حبة مندلينا سقطت على نيوتن بدل التفاح ولم نعاقب، وفي حصص العربي لم نحفظ قصائد المتنبي ولا احمد شوقي ولم نعاقب، وفي حصص الكيمياء، أذكر أن حل إحدى المعادلات الكيميائية أظهر فوز الفيصلي ولم نعاقب، وفي حصص الدين مررنا على سيرة الخلفاء الراشدين، وكنا نخطئ في ترتيب سنوات الخلافة ولم نعاقب، وفي حصص التاريخ أجاب أحد الطلاب أن وعد بلفور وقع بعد الثلجة الكبيرة ولم نعاقب، بينما العقاب كان فقط لحفظ قصيدة عمي منصور النجار!
لو كان منصور يضحك لأنه حرر فلسطين لما عتبنا، ولو كان منصور ضحك لأنه أمسك فاسدا لما غضبنا، ولو كان يضحك لأنه سدد العجز لما اعترضنا. ولكن، حين قلت المزمار لم أخرج من الملّة، والعقاب الذي تعرضت له جعلني أخاف من كل نجار مع أن مهنتهم من أقدس المهن.
أنهيت المرحلة الابتدائية، والثانوية، والجامعة، وتعينت، وتزوجت، وأنجبت.. ولم أستفد شيئا من حفظ القصيدة، ففي الجامعة لم يكن هناك أي نشاط تعليمي بحاجة الى منشار، وعند التعيين لم يتم سؤالي إن كان بيني وبين العم منصور صلة قرابة. وحين تزوجت لم يوافقوا علي لأنني، مثلا، خبير مناشير!
قبل عدة أيام عقد وزير التربية والتعليم مؤتمرا صحفيا وصرح أنه سيكون هناك مركز لتطوير المناهج، وهذه خطوة متقدمة لتطوير مناهجنا لتتناسب مع متطلبات العصر، فلم يعد ينفع أن نواجه المد العلمي والثقافي والتكنولوجي بتقديس العم منصور!
تطوير المناهج مسألة بالغة الحساسية والتعقيد، فإذا تم حذف آية قرآنية واحدة فسيتهم بأنه ضد الدين، وأنه جاء لينفذ أجندة خارجية، وأنه شريك في المخطط الدولي لطمس الهوية الإسلامية، وإذا ما قرر إضافة حفظ سورة البقرة للمنهاج سيتهم بسوء التخطيط، وأنه حمّل الطلبة فوق طاقاتهم، وأنه جاء لتدمير قدرات الطلاب الاستيعابية حيث إن هناك أئمة مساجد عجزوا عن حفظ سورة البقرة!
لذلك، المطلوب هو العقلانية والتوازن عند تطوير المناهج، وان يكون الهدف مواجهة المد الجارف لوسائل التواصل الاجتماعي، حيث نحتاج الى جيل لديه الثقافة والمعلومة الصحيحة حتى لا يصدق كل ما يقرأ، جيل يعلم مدى تسامح ديننا، وأنه نبع من القيم والأخلاق، وذلك لمواجهة الفكر المتطرف. ونريد جيلا يعشق الوطن ويشعر أنه حاضره ومستقبله؛ عملا لا أغنية وقصيدة.
فحين نخرّج جيلا لا يسرق ولا يعتدي ولا يرتشي، ويحافظ على مقدرات الوطن وممتلكاته، هنا نصنع وطنا ومستقبلا بالأخلاق لا بالمنح والمساعدات، ويكفينا فخرا حينها أننا لن نكون بحاجة الى هيئات لمكافحة الفساد!
أما قصيدة عمي منصور النجار، فأظنها لن تفيدنا في المستقبل حتى في مواجهة (القارص)!
الغد