حرب أردوغان ودكان القرضاوي
راشد صالح العريمي
21-03-2017 07:40 PM
على كثرة الأزمات المرتبطة بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فإن الأزمة الأخيرة مع هولندا ذات أبعاد جديدة، وهي تتحول بسرعة من أزمة تركية- هولندية إلى أزمة تركية أوروبية، إذ تجتذب إليها مزيداً من الأطراف الأوروبية التي تصطف إلى جانب هولندا، وتتجه مساراتها نحو مزيد من التصعيد. ولا يبدو أن أردوغان وأركان حكومته راغبون في أن تتجه الأزمة نحو حل أو نحو التهدئة، أقله حتى السادس عشر من إبريل، موعد الاستفتاء على التعديلات الدستورية التي ستمنح أردوغان، بوصفه رئيساً للجمهورية، صلاحيات واسعة تغير طبيعة النظام السياسي في تركيا، ويبدو أن هذه هي المعركة التي تجعل أردوغان ووزراءه مستعدين لفعل أي شيء في سبيل كسبها.
الطريقة التي اختار أن يرد بها أردوغان على إلغاء الحكومة الهولندية لزيارة وزير الخارجية التركي إليها أصبحت هي المشكلة، ولم يكن ذلك خارج مقصوده على الإطلاق. ولم يكن تصرف هولندا مفاجئاً أو خارج سياق العلاقات مع تركيا في الآونة الأخيرة، فالشد والجذب لم يتوقفا مؤخراً بين البلدين، لكن نوعية الرد الذي اختاره أردوغان تشير إلى تعمد الوصول بالمشكلة إلى مناطق تصبح هي المشكلة بذاتها، وتؤدي بالضرورة تدخل دول أخرى سرعان ما يضمها أردوغان إلى قائمة الأطراف المعادية، على النحو الذي حدث مع تدخل ميركل، واختيار أردوغان تعبيرات "النازية" و"الفاشية" بكل ما يحيط بها من حساسية في أوروبا والغرب عموماً.
بعد أيام خطا أردوغان خطوة جديدة لتوجيه المعركة الوجهة التي يريدها، حين استدعى من تاريخٍ مريرٍ مصطلح "الحروب الصليبية"، ليستحضر كل المرارات والأحقاد الحضارية والغيوم السوداء للمواجهات اللاهوتية التي يُفترض أن العالم قد تجاوزها منذ أزمان طالت، متجاهلاً حقيقة أن الأزمة بينه وبين هولندا، وأوروبا من بعد، هي أزمة سياسية ستجد طريقها إلى الحل عبر تسوية ما، وسيحدث ذلك بالقطع حين تقتضي المصلحة ذلك، كما حدث ذلك من قبل مع إسرائيل ومع روسيا ومع إيران وغيرهم. لكن بعث الأحقاد الدينية من مرقدها بهذا الإصرار والتعمد، أو إذكاءها وإخراجها إلى الواجهة، هو لعب بالنار المهلكة، ولاسيما في مرحلة من تاريخ الإنسانية تنتشر فيها الكراهية كبراميل البارود المكدسة انتظاراً لشرارة تعجل بوقوع الكارثة.
لم يكن الأمر ليشغلنا إلى هذه الدرجة، لولا أن تبعات ما يفعله أردوغان تنسحب على العالم العربي والعالم الإسلامي بأكمله، وتعزز حالة "الرهاب الإسلامي" أو "الإسلاموفوبيا" التي تتغذى على الإرهاب الأسود وجماعات التطرف والأفكار المتشددة، وتتحمل وزرها كل الدول والشعوب العربية والإسلامية. وغني عن التوضيح أن كل الجهود المضنية التي تبذلها دول عربية وإسلامية عدة من أجل تحسين صورة الإسلام والمسلمين تتضرر بشدة من أي سلوك غير محسوب، ولاسيما مع وجود قوى وجماعات لها مصلحة في نشر الخوف من الإسلام في الغرب، والربط التلقائي بينه وبين الإرهاب والتطرف والكراهية.
دخول أردوغان على الخط هذه المرة يضيف بعداً جديداً للقضية، فالإرهاب والتطرف تمثلهما جماعات خارجة عن سلطة الدول. وتخوض الدول مواجهات مع هذه الجماعات تصل إلى حد الحرب الشاملة والمفتوحة، كما هي الحال مع داعش مثلاً. وتشترك الدول العربية في تكتلات وتحالفات عالمية تقوم بأنشطة عسكرية لدحر جماعات الإرهاب في دول مثل أفغانستان أو العراق أو سوريا أو اليمن، بمعنى أن الدول العربية والإسلامية تبقى طرفاً فاعلاً في مكافحة الإرهاب واحتواء التطرف والتشدد. وفي حالة أردوغان فإن الدولة، ممثلة في أرفع مسؤوليها، هي من يتبنى جر المواجهة إلى الساحة الدينية، وتهيئة الأرض للتشدد والتطرف. والنتائج التي تترتب على مثل هذه المقاربة، بحكم طبيعة العالم الآن، لا تقتصر على تركيا وحدها، بل تشمل الدول العربية والإسلامية ومصالحها وقضاياها الشائكة، كما تشمل المسلمين في الدول الغربية، وفي كل مكان من العالم.
إزاء الهدف السياسي الذي يلهث وراءه أردوغان، فإنه لم يفكر فيما يمكن أن يلحق بملايين المسلمين من أضرار. وإذا كان خيرت فيلدرز لم ينجح في انتخابات هولندا، فإن أفكاره اكتسبت في ظل المواجهة التي افتعلها أردوغان أنصاراً، واضطر منافسوه إلى إصدار خطاب أكثر حدة تجاه المسلمين، وعلى رأسهم مارك روته، الفائز في الانتخابات الهولندية. وما يشغل أردوغان حقاً هو ما يعتبره معركة الكبرى، أي الاستفتاء الذي سيوسع صلاحيات الرئيس على حساب رئيس الوزراء، ومثل هذه الصلاحيات هي مسألة سياسية بحتة، ولا علاقة لها بالإسلام من قريب أو من بعيد. وليس الإسلام عند أردوغان، للأسف، سوى أداة للتجارة الرخيصة، يحرز بها مكاسب قد تكون مؤقتة.
تكتمل المأساة، أو الملهاة، مع البيان الذي أصدره ما يسمى "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين"، حيث اصطف البيان مع أردوغان في "معركته ضد أوروبا" وجاء في البيان أن: "النظام الذي يدعو إليه أردوغان هو النظام الذي يتفق مع التعاليم الإسلامية، التي تجعل أمير المؤمنين أو الرئيس الأعلى هو رقم (1) في السلطة". ففضلاً عن غلبة السياسي على الفقهي، الذي يُفترض أنه محل عناية هذا الكيان الذي يدعي "الإسلامية" ويدعي "العالمية"، فإن الانحياز إلى "الجماعة" دون سواها يبلغ حد السفه حين يوصف أردوغان بأنه "أمير المؤمنين"، وأن نظامه يمثل "التعاليم الإسلامية"، فيما أردوغان ذاته يقر في كل مناسبة بالتزامه الأساس العلماني للدولة التركية.
لقد غاب يوسف القرضاوي لفترة قبل أن يطل كعادته من بوابة الفتن والشرور، موقعاً على هذا البيان الذي يدخل في باب الهزل السياسي والديني، ومجسداً صورة من يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، ويفترون على الكذب وهم يعلمون، ويستخدمون اسم الإسلام فيما لا يعنيهم غير مغانم يجنيها محازبيهم من جماعة الإخوان المسلمين.
وقد أظهر هذا البيان الهزلي أن ما يسمى "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" ليس أكثر من "دكان" ليوسف القرضاوي ونفر من تابعيه، فقد وصف جاسر عودة، عضو مجلس أمناء "الاتحاد" المزعوم، في صفحته على الفيس بوك، البيان بأنه "يخرج عن دور الاتحاد كهيئة علمائية تستهدف أن تمثل مرجعية شرعية للأمة"، وأن "تلك البيانات تتعارض مع قرارات مجلس الأمناء المتكررة منذ سنوات والتي نكررها في كل اجتماع لمجلس الأمناء، وفحواها أنه ليس من مهمات الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين إصدار البيانات أصلاً ولا يصح أن تصدر عن الاتحاد أو باسمه بيانات عامة إلا في النوازل الكبيرة التي تتطلب موقفاً شرعياً عاماً". ويعني ذلك أن "الاتحاد" لا يقيم وزناً لأي من أعضائه، وأن آراءهم وقراراتهم ومناقشاتهم لا قيمة لها لدى القرضاوي الذي يفعل في النهاية ما يزينه له هواه الشخصي، تحت لافتة "الاتحاد" الزائفة.
القرضاوي في ممارساته تلك، مثله مثل أردوغان، تحركه نوازع الهيمنة وامتلاك السلطة المطلقة وإلغاء الآخرين، وكلاهما لا يرى في الإسلام أكثر من لافتة تُرفع لإحراز المكاسب، وهي سمات تضرب بجذورها في ممارسات الإخوان المسلمين وتاريخهم. ولا يكترث القرضاوي وأردوغان لما سيصيب المسلمين من جراء السعي الانتهازي المحموم وراء مغنم سياسي، لأنهم يعيشون بعقلية "الجيتو" بكل ما فيها من تآمر وكراهية وإحساس بالاضطهاد ورغبة في الانتقام، وهذا يجعلهم أقرب إلى أن يبطنوا في ذواتهم السرور بكل ما يتسببون فيه للمسلمين من مآس ونكبات.
الحياة اللندنية