الحسين .. إذ يبقى القمر بدرا
14-11-2008 04:23 PM
حينما يولد القمر يبدأ التاريخ متسلسلا ، فالهلال بداية ، والبدر منتصفا ، وحين تكون ليلة الرابع عشر ، يسطع نوره وضاءا ، مكتملا ، كأجمل ما وصفت العرب خيالا ، وما فاضت قرائح الشعراء غزلا ، فهو حداء الأحبة في ليلهم ، ومشعل السارين في دروب السـَحر . ، ليسطع "حسينا " لا ينطفئ له نور ، و لا تنساه الدهور ، فقد رسمه التاريخ سطرا ، حين لا تمسح السطور!
حين أكتمل القمر بدرا ليلة الرابع عشر من تشرين ثاني لعام خمسة وثلاثين وتسعمائة و ألف للميلاد ، ولد الحسين بن طلال قمرا ، سليل أهلة طالما اهتدت بهم الهداة ، وحثت على قمراءهم خطى الركبان .. ! ولأن الحياة رحلة لا بد أن تنتهي ، فإن الحسين قمر انتهت رحلة قدماه ، ولم ينته سطوع ذكراه في بطاحنا ولا نجودنا ولا مدننا أو أريافنا ، فبقي ذاك البدر الذي جاء في منتصف تشرين تغسله زخات المطر الهريف في فصل الخريف ، فصل الاستعداد لاستقبال الأشجار لأوراقها والورود لأزهارها ، والنخيل لثمارها ، والأرض لروحها المطرية العطرية ، حين تورق جميعها ، كما أورقت أيام الحسين الأمير الوليد الذي أصبح في ريعان شبابه ملكا ، أزهر ملكه ، وأنورت عاصمة ملكه السعيد به ،و طاعت له الأرض ومن عليها ، محبة وعشقا ، لعينيه اللتان رأتا ما لم يرى كثير من نظراءه ، بل وعز النظير حينما كان الحسين حسينا ، والأمير ملكا ، والملك وطنا ، والوطن أمة جمعت شمل الفرقاء ، ومسحت رماد البغضاء ، وأزهرت صحراءها وردا يعطر اليد التي حاولت أن تقطف أزهارها ، وأمّنت من جاء يروع أمنها .!
الحسين .. حينما كنا نحبس أنفسنا أمام شاشة تلفاز كان اسمه التلفزيون الأردني يوما ما ، ننتظر خطابه ، قبل أن نحبس أنفاسنا ، طاوين الصحف ، وواضعين الأقلام ، لأن خطبة خطيبنا كانت هي فصل الخطاب ، لنبقى حتى الموعد التالي مزودين بخارطة طريق لحياتنا في هذا الوطن الذي قال فيه الحسين : ( لقد تأسس هذا الوطن ، وطن المهاجرين والأنصار ، على قيم الأخوة والمساواة في الحقوق والواجبات ، والتسامح والوحدة الوطنية الوطنية المقدسة ، التي نعتز بها ، التي تشكل إحدى الركائز الرئيسية في هذا البلد ومنعته ، فهذا هو الأردن وطن العرب وملاذ أحرار الأمة ، والمواطنة الحقيقية عندي هي الإيمان بهذا الوطن والانتماء اليه بغض النظر عما سوى ذلك من الاعتبارات } .
وحينما يكون الوطن حبيبا ، فهناك من يصنع حبال الحب والمودة ، ويشد عضد الانتماء إليه ، ويعيد للمواطن فخره بتراب خلق منه إنسانا وسيعود إليه ترابا .. وما كان ذاك لو لم يكن الراحل الكبير المنظرّ الملهم ، وحامل لواء الوطنية الأردنية ، والفكر الثاقب المستشرق لآفاق المستقبل، وحامي كيان بلد حفر اسمه بأظافر الإنجاز على لوحة الحياة وصخرة العالم القاسية .
ذلك الحسين .. الذي تمنى في أصيل شمس حياته أن يلاقي وجه ربه مرضيا عنه ، فالظروف والدسائس والسياسات التي كانت تقع وتحاك وترُسم في غير مصلحة هذا الوطن ، جعلت منه عنترة الذي حاربه قومه لغاية في أنفسهم ، لتتحطم كبرياء أنوفهم على بلاط بطولته حينما أسُقط في أيديهم وتكشفت عوراتهم ، وهزمت بطولاتهم ، فاجتهدوا في السعي الى تفكيره ، وأرخصوا بطولاتهم طلبا لسيف عقله وتدبيره .
كان أحنف العرب في عشرينية قرونهم ، بل كان عديل الأحنف بن قيس التميمي حليم العرب ، في حلمه وطول أناته ، ورشاد مسعاه ، في سنين غاب فيها الحلم ، وساد منطق الحكمة الصبيانية عند عجائز السياسة الذين داست جنازيرهم آداب دساتيرهم ، فكانت فوهات البنادق هي أفواه حكمهم ، والدهاليز المظلمة هي روح عدلهم ، في يوم كان الحسين يحكم الأردن بلسان الحكمة ، وميزان العدل ، وميثاق الأخوة الصادقة .
ذاك هو الحسين .. اعتمر الكوفية الحمراء يوما ، وقام في الشعب خطيبا ، وتكلم في الأهل ناصحا ، وتضرع لله تعالى عبدا راجيا ، منتسبا لآل بيته بني هاشم الغرّ الميامين .. فهل تذكرون ما هي غاية المنى عند الحسين الذاكرة ، إذ قال يوما : { فنحن بنو هاشم لا نطلب غير رضاه سبحانه وتعالى ، وتوفيقه ، حتى نظل قادرين على أداء الواجب في هذه الحياة الدنيا ، ثم لقاء وجهه مع الشهداء الأبرار والأخيار من عباده الصالحين }...
أيا حسين .. تكابدنا الأشواق وجمر الفراق ، وحرقة الذكرى ، حينما يغور ماء أفئدتنا ، ويفيض ماء عيوننا ، ويتذكر الشيخ الطاعن حين كان العكاز ثالث أقدامه ، كيف كان " أبوعبدالله " رابعا له ، يحمل عجزه على محمل الإرادة والعطف والحنان ، بشفاه وقعت معاهدة تحالف دائم مع الابتسامة ، وقلب ألغى من قانونه مراسم تأشيرة المرور اليه ، فعشقه الصغار والكبار ، والأهل والجار ، ومن عاهد هذا البلد ومن عليه جار ، فماذا عساه كان يحس بخلجات فؤاده الكبير حين يتكلم عن الأردن الوطن والإنسان : في خطاب للراحل العظيم تكلم فأجزل الكلام ، وأناخت على أعتابه ركائب العشق والغرام ، وحامت طيور المحبة والسلام .. حيث قال : { فهذا الوطن ، الذي عشت له ما عشت ، بين أصحاب الجباه العالية ، والهامات التي لا تنحني لغير الله سبحانه وتعالى ، سيظل عصيا على كل الأعاصير ، وعصيا على قوى الشر ، وسأظل حريصا على مصلحة الوطن فردا وجماعة ، الى أن ألقى وجه الله وكتابي بيميني عنده تعالى .. والله من وراء القصد }...
يا حسين .. ماذا عساهم يقولون أصحاب الجباه العالية ، حينما يتذكرون حادي ركب وطنهم منذ صغر أجيالهم ، حتى أصبحوا بنعمة من الله شعب لا يشق له غبار في العلم والتعليم ، والعمل والإنجاز ، وأحالوا المستحيل ممكنا ، في ظل إرادة الرجال الشم الأباة ، الذين يصافحون الوعد قبل الموعد ، ويوقظون الفجر قبل ان يستيقظ ، ويرسمون عطاءهم بألوان أردنية على الشفق ، ووجه البحر ، ورمال الصحراء .. ماذا عساهم يقولون ، والأيام تعدنا ، والسنين تأكلنا ، والتراب موعدنا ، ورحمة الله منانا وغايتنا .
يا ملكا جندّل أساطير الملوك على تراب عملقته ، يامن غيّر للمستقبل وجهته ، وأعاد للتاريخ ألقه ومصداقيته ، وقطع دابر العدو وزبانيته ، وأثبتّ للتراب أردنيته ، مت هانئا ، كما يموت الولي المؤمن في جنته .. فلا عنقا قطعت ولا رزقا ، ولا بادية نسيت ولا بلقا .. قتلت شعبك ساعة الفراق ، وهو الذي ظن أن لن تفترقا .
يا حسيننا ، يا من كنت بلسم القلوب السقيمة ، ودواء الجراح الأليمة ، وكنز البيوت العديمة .. يا قمرا أضاء لنا عتمة الدروب ، و موئلا بعد الله إن ادلهمت بالجموع الخطوب .. يا وجعا تداعت له الأفئدة المكلومة ، رحمة من الله عليك وغفرانا ، في ثلة الفئة المرحومة ، وجزاك الله مغفرة كما طلبتها صادقا مع الشهداء الأبرار والصادقين الأخيار ، جزاك الله خير الجزاء حين حقنت الدماء ، وأدخلت السرور على من داخلته الضرّاء .. يا أبا لن تنساك الأجيال وأحفادهم .. يروونك أسطورة لن تتكرر إلا بأذن الله .
فسبحان من خلقك وأماتك .. وسبحان من أندر صفاتك ، وجعل قلوب شعبك مسكنك في موتك وفي حياتك .. يا من خططت للأجيال ، و شيدت عاصمة الحب على سبعة جبال ، وطوقت الدار بجيش مغوار ، وزرعت المروءة في نفوس الرجال ، وأوفيت نشميات الوطن حقهن بالمكيال .. فكيف تنساك العقول التي اقتنعت بك سيد سادات القوم وشيخ مشايخ العشيرة وملكا للوطن الأعز ، وكيف تغيب عن الخيال .. يا راحلا عنا الى دار الخلود هذا محال ، يا سيد الرجال ، يا قمرا غاب عنا تسعا من السنين ولم يغب نوره .. ستبقى الحسين الذي أحببنا ، وصافحنا ، وعانقنا .. وعليه الدموع ذرفنا .. دموعا عزيزة على الرجال !
قالوا لك يوما : يكفيك ان الله معك .. ونحن نقول يكفيك إنك تركت لنا ملكا لا يُخجل لك طرف ولا يــُندي لك جبين ، فجبينه من جبينك الأغرّ ، لا زال على عهد الملوك من آباءه الذين ما انفكوا يسجلون الصفحات البيض في عتمة الورق ، ويجد في رقي شعبه مكابدا للأرق ، ملكا معززا يذكرنا بك كلما نادته أمّ حنون يا سيدي يا عبدالله .. دمت وأيدك الله ، فأمنوا يا رعاكم الله .