أزمة العولمة الرأسمالية وبديلها؟
د. مصطفى البرغوثي
19-03-2017 11:56 AM
بعد سبعة وعشرين عاما على وصف فوكوياما المتسرع لانتصار الرأسمالية بأنه "نهاية التاريخ"، تعصف بمنظومة العولمة الرأسمالية أزمة عميقة تتجلى مظاهرها في أربع أزمات فرعية:
أولها الأزمة الاقتصادية لمنظومة رأس المال متعدد الجنسيات، وأهم مظهر لها التناقض العالمي العميق بين السماح بالحرية المطلقة لتنقل رأس المال والاستثمار، وحرية التجارة المفروضة بالقوة، وحرية التصدير وتنقل البضائع، وبين منع حرية تنقل القوة العاملة.
وليست قضية المهاجرين والهجرة ومحاولات دول عديدة منع دخول اللاجئين إليها من البلدان النامية إلا التعبير الصارخ عن إصرار الدول الرأسمالية الكبرى على منع تنقل القوة العاملة بحرية، والهدف هو بالطبع الحفاظ على الأرباح الناجمة عن استغلال القوة العاملة الرخيصة في بلدان الجنوب أو البلدان النامية، أو بلدان آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية للدقة، من الاحتكارات متعددة الجنسيات.
ومن اللافت للنظر ارتداء الحملات ضد المهاجرين في الولايات المتحدة وأوروبا صفة التعصب الشوفيني القومي، كغطاء للهدف الحقيقي، وهو الحفاظ على نظام اقتصادي يسمح بالأرباح الباهظة على حساب الشعوب الفقيرة.
ولا يمثل الادعاء بأن غرض سياسات الحد من المهاجرين هو خلق فرص عمل للعمال في أميركا مثلا سوى غطاء للهدف الحقيقي، وهو الحفاظ على حرية تحقيق الأرباح من القوى العاملة الرخيصة في بلدان أخرى.
وما يطرح من سياسات انعزالية في هذا السياق في بلد كالولايات المتحدة يمثل مفارقة عجيبة وتناقضا أعجب بين دفع الاحتكارات لعجلة العولمة، ومحاولة تقييد نتائجها في الوقت نفسه، وهذا تناقض لا يمكن أن يستمر دون حل أو تحول.
أما الأزمة الثانية فهي أزمة الديمقراطية: حيث تقلص مفهوم الديمقراطية في أذهان الكثيرين إلى مجرد إجراء الانتخابات، والتي أصبحت في كثير من الدول مجرد ورقة توت تستر عري الأنظمة السلطوية أو الدكتاتورية والشمولية.
وتتجلى في بعض البلدان مظاهر مثل هيمنة الأجهزة الأمنية أو العسكرية على كل مفاتيح السيطرة والقوة مع السماح من حين لآخر بانتخاب برلمانات هشة لا قدرة لها ولا نفوذ ولا سيطرة على أجهزة التحكم العسكرية أو الأمنية.
وفي بلدان كثيرة أصبح شراء أصوات الناخبين بالمال أمرا طبيعيا، وفي بلدان كالولايات المتحدة لا يمكن لأحد تخيل إمكانية الترشح لأي منصب جديد دون تأمين الملايين من الدولارات للحملات الانتخابية، أو أكثر من مليار دولار عندما يتعلق الأمر بمنصب الرئيس.
ولعل من أهم مظاهر هذه الأزمة أو نتائجها اندماج مكونات السيطرة السياسية والأمنية بمكونات السيطرة الاقتصادية.
فيصبح السياسيون والمسؤولون الحكوميون رجال أعمال، أو شركاء في المشاريع الاقتصادية أو الوكالات للمنتجات الأجنبية.
والنتيجة الطبيعية لذلك هو الفساد الذي يستشري كالسرطان مثيرا حنق غالبية الناس الذين يمولون من عملهم وعرق جبينهم، وضرائبهم ومشترياتهم، أرباح الفئة المسيطرة وامتيازاتها.
الأزمة الثالثة المتفاقمة، هي أزمة القيم ومظاهرها لا تعد ولا تحصى، ولنذكر بعضها:
إذ تشير آخر تقارير المنظمات الإنسانية الدولية إلى أن ثمانية أشخاص فقط يملكون اليوم، ما تملكه نصف البشرية أي ما يملكه 3500 مليون إنسان من سكان عالمنا.
كيف يمكن تخيل أو احتمال وضع كهذا؟
المظهر الثاني هو تصعيد الإنفاق على التسلح والأسلحة، وما يرافقها من حروب تستخدم كميادين لتجريب هذه الأسلحة والترويج لها.
بلغ الإنفاق العالمي على التسلح عام 2016 ما يزيد على 1500 مليار دولار، وبالمناسبة كانت حصة الدول العربية من هذا الإنفاق 28%، وفي الوقت نفسه يعجز العالم ومنظومتة الرأسمالية عن تخصيص 12 مليار دولار فقط ستكفي لتوفير المياه النقية لكل البشر في العالم، بما يعنيه ذلك من إنهاء لكثير من الأمراض والأوبئة. ومن مظاهر هذه الأزمة شن حروب تدميرية لا مبرر لها وبحجج كاذبة كالحرب الأميركية على العراق واحتلاله، وما أدى اليه ذلك من ظهور لمجموعات إرهابية كداعش وغيرها، أو تغذية حروب أهلية متصاعدة كتلك التي تشهدها سورية واليمن وليبيا، بما يحطم مقومات هذه الدول ويهدد مستقبل مناطق بكاملها. لكن أبرز مظاهر هذه الأزمة الأخلاقية، إدارة الظهر لحق فلسطين في التحرر من الاحتلال ونظام الأبارتهايد العنصري الإسرائيلي.
واستمرار الكثيرين في استخدام المعايير المزدوجة والسكوت على خروقات إسرائيل للقانون الدولي، بل تملقها، ومحاولة تسهيل تمرير مشاريعها.
ومن مظاهره أن يرضخ الأمين العام للأمم المتحدة للابتزاز والإرهاب الفكري الإسرائيلي بدل أن يساند زملاءه ومساعديه وعلى رأسهم الدكتورة ريما خلف بعد أن أصدروا تقريرا علميا موضوعيا يكشف حقيقة نظام الأبارتهايد الإسرائيلي.
أما الأزمة الرابعة، فهي الأزمة السياسية المتجلية في صعود الشعبوية العنصرية، والعجز عن التعامل الأخلاقي الفعال مع وسائل الاتصال الاجتماعي التي تتطور بتسارع مذهل.
الشعبوية ليست شيئا جديدا، فباستخدامها صعدت أنظمة فاشية إلى الحكم بالانتخابات كما جرى في ألمانيا النازية، لكن شكوى القوى التي تعتبر نفسها ديمقراطية منها وعجزها عن مواجهتها هو الجديد. والعجز طبيعي لأنه مرتبط بفشل السياسيين في حل التناقضات الثلاثة السابقة التي عرضناها.
فهل هناك بديل لهذا الوضع؟
معظم الساسة الاشتراكيين الديمقراطيين في البلدان الغربية يواصلون طرح الحلول الإصلاحية، وأحدهم اقترح في مؤتمر حضرته قبل أيام أن الحل هو تخليص الرأسمالية من صفة الجشع، وهذه مفارقة مذهلة حيث يصبح الوعظ الأخلاقي هو الوسيلة المقترحة لمعالجة أزمة اقتصادية عميقة.
ما يلفت النظر في هذا الإطار أن كل جهد اجتماعي لمعالجة الفقر في بعض البلدان كالبرازيل والهند، يقود مباشرة إلى تقوية نظام الاستغلال الرأسمالي.
رأينا هذه الظاهرة سابقا نتيجة منح مئات آلاف الطلاب الفقراء فرصا للتعليم المجاني في ما كان سابقا البلدان الاشتراكية فتحول معظمهم بفضل التعليم إلى رأسماليين صغار أو كبار، ونسي معظمهم الطبقات والفئات الاجتماعية التي انحدروا منها. في البرازيل نجح الرئيس الأسبق لولا في إخراج 40 مليون إنسان فقير من حالة الفقر فأصبحوا مستهلكين، قووا النظام الرأسمالي في البرازيل الذي أفرز طبقة سياسية أطاحت بحزب لولا.
حزب المؤتمر في الهند أخرج 150 مليون إنسان من الفقر ونقلهم إلى عالم الاستهلاك، وكانت النتيجة أن الحزب بعد ذلك خسر الانتخابات لمصلحة الأحزاب اليمينية، المتوشحة أحيانا بالشوفينية، بأسوأ نسبة أصوات انتخابية في تاريخه.
السؤال هنا: هل إخراج الناس من الفقر حصيلته جعلهم أدوات في منظومة الاستغلال القائمة، أم تحويلهم إلى قوة دافعة للعدالة الاجتماعية وتغيير مجمل المنظومة الاقتصادية في بلدهم أو على نطاق العالم؟ جميع دول العالم أصبحت اليوم جزءا من منظومة العولمة الرأسمالية بما فيها الصين وروسيا أي بلدان الاشتراكية الأولى.
وما جرى في الهند والبرازيل يشير إلى أن البرامج الاجتماعية لا تحقق في النهاية العدالة الاجتماعية إن لم تعالج مسألة النظام الاقتصادي برمته.
العالم يعيش في نظام رأسمالي واحد وإن كان بأنظمة سياسية مختلفة، فما البديل؟ هل هو الاستمرار في التعايش مع الأزمات الخطيرة التي أشرنا إليها؟ وهل أحد أشكال التأقلم مع الواقع، انغماس الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية فقط في البحث عن مراكز السلطة من خلال كسب تأييد الناخبين؟ أم أن المطلوب شيء أعمق وأكبر وأكثر جذرية كبديل للنظام غير العادل الذي يعيشه العالم، بكل ما يحمله من مخاطر مدمرة.
وأخيرا فما من أمر يمكن أن يقنعني بأن حزبا يتبنى العدالة الاجتماعية صادق في توجهاته إن كان عاجزا أو مستنكفا عن تأييد حق الشعب الفلسطيني مثلا في التحرر من الاحتلال والأبارتهايد.
القيم لا تجزأ، وتجميل الواقع بالكلام لا يلغي بشاعته، فالشعبوية ستندحر عندما يشعر الناس البسطاء العاديون والمستغلون أن هناك قوى تستمع لهمومهم وتدافع حقا عن مصالحهم، ولا تسعى فقط للمناصب السياسية ومكاسبها على حساب أصواتهم.