أشرقَ وجهُها بامتنانٍ خاص حين وصلها خبرُ الموافقة على طلبها بالإحالة على التّقاعد... وهرعت إلى زملائها لتبشّرهم، ثم لتتلقّى منهم التّهاني المقتضبة؛ إذ لم يفهم أيّ منهم سببَ انشراحها، وسببَ سعيها للتّقاعد أصلاً !
في مساء ذلك اليوم، اتّصلت بأبنائها لتبلّغهم بالنّبأ السّعيد، ثمّ جلست في مقعدها المفضّل تفكّر في القادم من الأيام... واستسلمت للتّداعيات؛ سنواتٌ طويلة من العمل المضني المتواصل، إجهادٌ أخذ منها الكثير لتجدَ نفسها أخيراً على حافّة الشّيخوخة دون أن تحظى بالرّاحة التي تتمنّى، لكن ذلك انتهى الآن، فقد كبُر الأبناء وتزوّجوا وغادروا، وبإمكانها أخيراً استعادة ما سرقته الأيامُ منها... جالت بنظرها في أرجاء بيتها الصّغيرعازمةً النّية أن تضفي لمساتٍ جديدة عليه، ثمّ عاهدت نفسها على الالتزام ببرنامج يومي صارمٍ وممتع في آنٍ معاً؛ المشي اليومي في الصّباحات، التّواصل مع الصّديقات القديمات، احتساء الشّاي في المساءات تحت الدّالية العتيقة في الفناء... ذلك الذي ستتفرّغ للعناية به حتى تعيدَ له الاخضرار واللون والبهجة... ولم تجد ضرورة لتضييع الوقت في الطّهو إلا إذا شاءت دعوة الأبناء والأحفاد بين الحين والآخر، ستكتفي بوجباتٍ خفيفةٍ صحية، وستنامُ وتصحو وقتما تشاء، وستجدُ الوقتَ أخيراً لقراءة الكتب المصفوفة بصبرٍعلى الرّفوف، واضطربَ قلبها بالفرح وهي تقول لنفسها: « سأحيا ما تبقّى من عمري بسلامٍ وهدوء واستمتاع ! «
في مكانٍ آخر، قالت الابنةُ لزوجها: « أفكّر في وضع الصّغيرة عند أمّي بدلَ تسجيلها في الحضانة، فهي متفرّغة الآن بعد التّقاعد... ثمّ إنّنا نوفّر بذلك بعضَ التّكاليف، ما رأيك ؟ «
أجاب وهو يُلاعب الطّفلة: « فكرة ممتازة، سيُسعدها جداً الاعتناء بهذه الرّائعة ! «
في بيتٍ آخر، كان ابنها منهمكاً بتوبيخ طفليه على شقاوتهما حين بادرت زوجته بالقول: « كان الله في عوننا في العطلة الصّيفية القادمة... ما رأيك لو أقاما عند والدتك خلالها؟ لديها غرفة إضافية يمكن أن يناما فيها، وثمّة فناء ليلعبا فيه... « أجابَ بحماسة: « والله صحيح، وسيكون بإمكاننا السّفر وحدنا في الصّيف، بدل أن نرتبكَ بهما ! «
الابنة الثالثة كانت تخوض شجاراً مع زوجها في بيتٍ آخر سببُه خلافهما على ترتيب الأولويات في الإنفاق... فصاحت وصاحَ هو وتوجّها إلى فراشهما متخاصميْن، تقلّبت بقلق ثم سرحت تبحثُ عن حلٍ لأزمتهما المالية، فخطرَ لها أن تقترحَ على أخيها وأختها بيعَ بيت العائلة... فالوالدة تقاعدت الآن، ويمكن أن تقيمَ عندها، وليست بحاجة إلى بيتٍ بتلك المساحة، وبإمكان الجميع الاستفادة من حصّته فيّ ميراثِ الوالد الرّاحل، صرّحت بما خطر لها للزّوج الغاضب... فاستدارَ نحوها باهتمام ليبدي ترحيبَه بالفكرة، ويردف: «سترتاحين هكذا من شؤون المطبخ لنسستمتع بأكلات حماتي الشّهية على الأقل ! «
ثمّ ابتسمَ، وابتسمت، وتصالحا...
ونامت الأم... ونام الجميعُ في تلك الليلة وكلٌّ منهم سعيدٌ هانىء بما قرّر !
الرأي