احسب ان من حسن تقدير المرء لنعمة الله عليه أن يقوم بتكاليف شكرها على الوجه الامثل. وحيث أنه لا نعمة تفوق اهمية نعمة الحياة, وأن العمر المكتوب هو مجرى هذه الحياة, فإن برهان تقدير هذه النعمة ان تكون آناؤها حافلة بما يزكّي الانفس ويشحذ الانظار, ومن هنا كان الانسان في خسر ما لم يكن من اولئك «الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر», ومن هنا ايضاً كانت المعرفة بما هي فعل عبادة اولى الاشياء بالاهتمام (حيث جاء عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: «وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون» ان «يعبدون» هنا بمعنى «يعرفون» والقراءة باسم الله هي السبيل الى تزكية العمر بالمعرفة, وهي الكفيلة بوصول صاحبها الى حقائق وجوده الذاتي, ووجود الكائنات, والى ان يدرك دلالات ذلك كله في مدى عمره الذي سبقت به الكلمة وكان كتاباً موقوتاً.
على أن المعرفة لا تكون جزءاً حميماً من وجدان احدنا او عنصراً رئيساً فاعلا في كينونته ما لم تأته عبر رسول عرف صفاته وسماته وتنوّر ملامحه الاخلاقية وأحب اسلوبه في حياته واشرب تعشّق ذاته, فكان أحب اليه من كل شيء ومن كل حميم الا خالقه الكريم.
والرسالة بهذا المقترب خطاب واسلوب معاً, اذ الاسلوب هي تجلّي الخطاب. ويمكن لنا ان ننظر الى تبيان القرآن والى بيان الرسول (وقد كان قرآنا يمشي على الارض) وكان عليه صلوات الله وسلامه: (خلقه القرآن) من هذه الزاوية التي ترى الى الاسلوب بما هو امر متواشج بالخطاب او من مقتضاه.
واذ نحوّل ابصارنا من هذا المرتقى العالي الى واقعنا الانساني ونرى الى «فعل القراءة» الذي نمارسه, والى اثر اصحاب الاساليب فينا, فإن بنا أن نقول: إن كتاباً لا اسلوب لصاحبه ولا شخصية متميزة تتراءى خلاله هو كتاب فاقد الفاعلية في روح قارئه وإن اشتمل من «المعلومات» على الكم الوفير.
إنه, في أبعد احتمالات نفعه, سيكون جزءاً من الذاكرة لا حركة دائبة في النفس او مستراداً خصباً للعقل. والذاكرة وعاء يمسك بقدر ويفلت بقدر, على حين أن ما يعلق بالنفس ويتوثب به العقل يؤول نماء في الشخصية وتزكية لها وتراحب آفاق.
من اجل ذلك كله انا ضنين, ولو بساعة واحدة من عمري المحدود, ان تذهب في قراءة غير اصحاب الاساليب والشخصيات المتميزة خلقاً ووعياً وبياناً.
كان صديقنا الراحل «فايز محمود» رحمه الله يقول إن قصر عمر الانسان يلزمه بتقنين قراءاته, وأن لا يقرأ الا ما يحب أن يقرأه, ولا يكون ذلك, لدى النظر المتدبّر» إلا إذا كان من نقرأ لهم ذوي اساليب مبينة وشخصيات متفرّدة تدفعنا قراءتهم الى اتخاذ مواقف مما يكتبون, أو الى مسامتتهم في آفاقهم التي بها يحلّقون.
تلك هي القراءة التي تنفعل بالاراء والمواقف, ولا تغرق في «المعلوماتية» ثم لا تستطيع النجاة من امواجها.
وذلكم هو الفعل المعرفي الذي تغدو به الذات اكثر سموّاً وصفاء, أو المعرفة التي تكون عبادة وتسبيحاً. وكل ميسّر لما خلق له لو كنتم تعلمون.
الرأي