في مجتمع السمع والطاعة والتسليم، حيث يدرب الأبناء على الصمت في حضرة الكبار ويلتزم الجميع باتباع ما يمليه أولو الأمر، وحيث يقتصر التعبير على الأوامر والأحكام والتعاليم والإرشادات التي تصدرها فئة من المجتمع ويتوجب على الجميع اتباعها.. هناك تحول لافت يصعب تجاهله أو التغاضي عنه.
التغير الجديد يتمثل في ثورة الاتجاهات وطرق التعبير وديناميكية الاتصال، فلم يعد الحديث وإعطاء الرأي واحتكار الحكمة وقفا على الزعماء السياسيين وشيوخ القبائل والمساجد والمعلمين والكتاب ورجال الصحافة والشعراء، بل أصبحت ممارسة يومية يقوم بها الجميع؛ الصغار والكبار، المتعلمون وغير المتعلمين، الرجال والنساء، جميعهم يبثون آراء وهموما ومقترحات وأفكارا متنوعة وغير مألوفة.
أصبحت في مجتمعنا وفضائنا أسواق وبضائع وسلع يعرضها الأفراد والجماعات على واجهات مواقعهم الإلكترونية. البضاعة الجديدة خليط من الأفكار والقيم والآراء والانتقادات التي قد ينتجها أصحابها أو يقومون بتسويقها نيابة عن منتجيها الأصليين.
الثورة الجديدة كانت المنتج الأهم، وربما الوحيد، لمخاض الربيع العربي الذي انتهى وخلف صدى هتاف "الشعب يريد" في وجدان الأفراد والجماعات التي شاركت في الاعتصامات أو تابعت مجرياته.
الواقع العربي الجديد يختلف عما كان عليه قبل الربيع، فلم يعد المواطن يكترث للتدقيق فيما يقول أو ما لا يقول، فقد زال الكثير من الخوف والرهبة بعد أن أدرك حجم التباين بين ما تقدمه الأنظمة وما يتطلع إليه.
الحراكات التي اجتاحت الفضاء العربي نجحت في كسر حاجز الخوف لدى الشعوب، لكنها فشلت في بلورة أهداف واضحة لعملها، كما فشلت في إيجاد صيغ تمكن المجتمعات من الوصول إلى الحالة الديمقراطية التي ظنت أنها تعمل على السير باتجاهها.
اليوم، وبالرغم من إحساس الجميع بأن شيئا ما قد تغير، إلا أن الكثير من الناس يشعرون بعمق المأساة وقتامة المستقبل الذي ينتظر الأجيال.
ثورة الاتجاهات الجديدة تحمل الكثير من الآمال، ولكنها مليئة بالتحديات، ففي المدن والأرياف، وفي فضاءات التعليم والعمل، هناك أصوات جديدة تقول كل ما تراه بدون تيقن أو تمحيص وتحليل، متجاوزة بذلك قواعد النشر والعمل الصحفي المحترف.
الحالة اللامعيارية الجديدة أصبحت مصدرا للإرباك والقلق، فقد أعطت للكثيرين من الهواة إحساسا بالأهمية والاستحقاق، وأظهرت الكثير من القصور في أدوار وسائل ومنابر الإعلام الرسمي في توفير المعلومات الدقيقة عن الظواهر والأحداث والقضايا والنشاطات.
التقصير الرسمي في التقيد بنصوص وروح قانون حق الحصول على المعلومات كان السبب الأهم في ولادة ظاهرة المواطن الصحفي وتنامي الفوضى الإعلامية الراهنة.
الممارسات غير المنضبطة لبعض من هم في مواقع المسؤولية، ومرور ذلك بدون محاسبة جدية، تعطي المبررات والمسوغات لمن ينشطون في مجال الرقابة والرصد الشعبي لاستخدام هذه الأمثلة وتوظيفها في تغذية مشاعر الرفض والاحتجاج، وربما الكراهية، لمن يديرون الشأن العام، واعتبارهم السبب الأول في كل ما يعانيه المجتمع من تراجع وتدهور وأزمات.
بفضل التكنولوجيا اليوم، بإمكان أي فرد كتابة ما يشاء وقول ما يريد، وأن ينشر رسائله تحت اسم مستعار أو حقيقي في وسائل الاتصال أو التواصل المتاحة، وبدون خوف أو قلق أو تردد، فقد انكسر حاجز الخوف واختفت العوامل والشروط والأوضاع التي كانت تمنعه من قول ما يريد.
يكتب الناس في السياسة والإدارة والمؤسسات وممارساتها، والكثير من الآراء والأحكام والمقارنات تطال كل شيء، ففي ثقافة اليوم اختفت روح الإذعان والتسليم، وحل مكانها التمرد والمناكفة والرغبة في كشف كل مستور.
"الغد"